ست الحسن .. تغريبة فنية
د. كمال يونس
ضمن برنامج ليالي المحروسة للاحتفال بليالي رمضان بحديقة الفسطاط بالقاهرة القديمة ، قدمت الثقافة الجماهيرية العرض المسرحي ست الحسن ( تغريبة مصرية) للكاتب الكبير محمد أبو العلا السلامونى بطولة أحمد ماهر( الغريب ) ، مصطفى حشيش ( سليم )، سحر حسن( خضرة ) ، سهير مصطفى ( الأم ) ، عبد الله مراد ( العمدة ) ، كمال عامر( ضاحى ) ، إبراهيم جمال( سيدنا ) ، محمد عبد الرشيد( المدرس ) ، أشرف شكري ( شيخ الغفر ) ، ماجدة شعبان( مطلقة سليم ) ، محمود وحيد ( شهبور )، مع أعضاء فرقة السامر المسرحية ، وفرقة النيل الموسيقية الشعبية ، تأليف الأغاني عزت عبد الوهاب ، موسيقى وألحان أحمد خلف ، ديكور وملابس صبحي السيد ، استعراضات أحمد يونس ، إخراج عبد الرحمن الشافعى.
النص الرائع للكاتب الكبير محمد أبو العلا السلامونى ، وهم من الكتاب الذين يؤرخ بهم للمسرح المصري ، نص المسرحية أسماه تغريبة مصرية ، وقدم تحت اسم ست الحسن ، النص مضمونا ورسالة عميق .. عميق ، إذ أنه لما تباعدت الشقة بيننا وبين نصر أكتوبر ، وقد برزت على سطح الأحداث ظواهر عدة، ومشاكل باعدت بيننا وبين امتداد الإحساس العميق بالنصر العظيم في أكتوبر 1973 ، العاشر من رمضان ، عاد الجندي فاقد الذاكرة وقد اصطحب الراوي ( التاريخ ) ليذكر من نسى ، وليبحث هذا الجندي فاقد الذاكرة عن هويته الحقيقية ، ففي القرى التي مر بها الجميع يرونه قريبا منهم ،ويؤكدون على أنهم يعرفونه ، حتى يقابل أمه التي تزوجت من عمه حتى يستولي على ميراثها ، ويعقد ابنه ( ابن العم ) قرانه على خضرة زوجة الغريب التي حملت منه قبل رحيله للجبهة ليشارك في الحرب ، يعود ليلة زفافها عليه ، وينكره العم وابنه ويتعرف عليه أهل البلدة ، ولكن العم الفاسد يأبى إلا أن يرحل الغريب عن البلدة، ولم لا حصد ثمن تضحيته في الحرب وينكر عودته، حتى ينتهي الأمر بالمواجهة بين الجندي العائد ، وابن العم الفاسد ، خاصة بعد أن ترتد إليه ذاكرته ، ويعطى الجوهرة لست الحسن ، دون أن يدرى أنه حجابه الخاص ، بعد أن تذكر انتصاره في حرب أكتوبر ، العرض معبق بالدلالات وهى لا تخفى على أحد ، فكم من أناس ضحوا وماتوا في الحرب ولم يغنموا سوى الشهادة ، أما أهل الفساد من النفعيين فقد تاجروا بانتصارهم، وربحوا ، ومكنوا به لأنفسهم ، وكأنهم من أحرزوا النصر ، الجندي لا تعود له ذاكرته إلا مع الانتصارات ، فهي الزاد الحضاري وإرث الكبرياء والعزة والكرامة في نفوس الشعوب ، وهو ما يجعلها تفيق من ثباتها ، وتقاوم حتى يتحقق لها التواجد في أبهى صورة من الكرامة والعزة ، من هنا كانت التغريبة ، حيث يتلاحم مضمون العرض المسرحي والوجدان الشعبي ، محدثا تماسا مع أعماق الشعب ، وقد عرف تاريخنا الشعبي تغريبة عنترة ، وأبى زيد الهلالي ، وسيف بن ذي يزن ، وها هي تغريبة الجندي والشعب عن الانتصار ، وترعرع الفساد وأهله ، وبرقية عميقة المدلول من الغريب إلى أهل القرية ( الشعب ) همه فين أهلي وبلدي .. أهلي فين ..، ناس إيه ..بأمارة إيه .. هو انتو ناس .. يللي كنتو ناس..أنتو لا ليكو كلمة ولا صوت ولا أي لزمة .. فيثوروا ويلتفوا حوله كي يسترجع حقه الضائع السليب.
سينوغرافيا العرض ( تصميم مشاهده ) تألقت فيها العناصر التي تؤكد على خصوصية العرض الذي يتناول السيرة الشعبية، القرية الريفية، الديكور والملابس أبدع تصميمهما صبحي السيد ، الألوان المعبقة بالدلالات ، وخاصة في استعراض الشيخ شهبور ، والملابس المرسوم عليها الكف ، والخمسة وخميسة ، وملابس الأم السوداء طوال العرض ، والملابس الوردية عند لقاء الغريب ، والخضراء عند محاولة تذكيره ، والبيضاء في الزفاف ، ملابس الغفر ذات الطرابيش الطويلة والشوارب، والتي تشبه إلى حد كبير أردية الأتراك ، عباءة الحلم للغريب في مشهد حكاية ست الحسن ، مع التوازن الفني والوظيفي في توزيع الوحدات الديكورية المتنوعة المتعددة، المستلهمة من روح العمل ومضمونه، الزخارف الشعبية المتنوعة البسيطة بتيماتها الخاصة، على يمين ويسار مقدمة المسرح ، شط النيل والمركب ذات الشراع ، والمصطبة المدرجة يجلس عليها من الأمام ، وتدور الأحداث على سطحها ، ويصعد إليها من الخلف ، فهي تفصل الخلفية وتضيف إليها بعدا وعمقا فيما بينها وبين المصطبة ، المقهى ، المسجد ،النخل ، مع حسن اختيار مكان تواجد الكورال والفرقة الموسيقية في أوسط يسار المسرح ، بحيث تعطى المسرح اتساعا ورحابة ، يتحرك فيه الممثلون ويدور فيه العرض بسلاسة حركية. بحيث يسرت التنقل والتغير من مشهد لمشهد بتقنيات مختلفة بسيطة لاحتراف القائمين علها ، تارة نقلة موسيقية ، تارة بتغيير الإضاءة ، وأخرى بأغنية ، بحيث أعطت قناعة بالتصديق على تغير المشهد من الجمهور ،ولاشك أن الإضاءة استخدمت بطريقة السهل المعبر المحمل بالمدلولات الدرامية التي تثرى العمل ، وقد وافقت وواكبت الحدث ولعبت دورا بارزا في تعميق الحدث والمضمون ، ألوانا وظلالا ، موسيقى العرض وألحانه لأحمد خلف ذو الوجدان المعبق بالوطنية والأصالة الموسيقية ، التي أدتها فرقة النيل للموسيقى الشعبية ،وقد استخدمت الآلات الشعبية مثل الربابة، الدفوف، الناي، وقد مزج فيها الأغاني الوطنية المعبرة على الانتصار مثل بسم الله ، دولا مين ، والحزينة مثل قولوا لعين الشمس ما تحماشى عند وداعه للذهاب إلى الحرب ، مع إيقاعات الزار ،ورقص المشعوذين ، والذكر ، والإنشاد ، والريستاتيف ( الكلام المغنى في كثير من مقاطع العمل ، وأغاني الزفاف والجنازة ، وموسيقى الحلم ، وأداء الأغاني لممثلي العرض والمطربين الشعبيين بحضورهم الطاغي وتشوق الأذن لسماع تيماتهم ( أنماطهم ) الموسيقية الراسخة في الوجدان ، وكاد أن يفعلها عبد الرحمن الشافعي ويقدم أوبريت ، ولكنه قدم عرضا شعبيا موسيقيا يشبه في جماله وروعته ما رسخ في الذاكرة موسيقيا عن الصور الإذاعية الشهيرة ، متواكبا مع الاستعراضات التي صممها باقتدار وحرفية عالية أحمد يونس ، والمستقاة بجذورها الشعبية من البيئة مثل البمبوطية واستعراض الغفر، وشهبور ، والذكر ، والانتصار ، والغفر .
من أجمل مشاهد العرض مشهد الحلم ، استعراض ليلة الدخلة ، الجنازة ، الرسم بالضوء والظلال في مشهد الحلم / الزار ، مشهد الوداع والسفر للجبهة ، مشهد شهبور ن مشهد الانتصار والنجوم في الخلفية ، مشهد التحطيب والمواجهة .
نجح المخرج في اختيار ممثليه ووظف طاقات كل منهم في مكانها وحسب قدراتها ، النجم أحمد ماهر ومعايشته للدور وتقمصه للشخصية ودراسته لها مما جعله يعمقها ويثريها ويؤديه كأحسن ما ينبغي ، ومن حسنات العرض الكشف الهائل عن طاقات مبدعة من حيث الأداء التمثيلي في المسرح مصطفى حشيش ( سليم ) بحضوره الطاغي وأدائه للدور عن فهم ووعى بأبعاد الشخصية نفسيا ودراميا ، ود.عبد الله مراد وتألقه في دور العمدة الذي يبحث عن الحق بمؤازرة من الشعب ، والتجلى الفني الرائع للموهبة والأداء لسهير مصطفى ( الأم ) ، وسحر حسن ( خضرة ) ، كمال عامر( ضاحى ) ، إبراهيم جمال( سيدنا ) ، محمد عبد الرشيد( المدرس ) ، أشرف شكري ( شيخ الغفر ) ، ماجدة شعبان( مطلقة سليم ) ، محمود وحيد ( شهبور )، وباقي أعضاء فرقة السامر المسرحية ، وهم يستحقون أن ينظر إليهم بعين الاعتبار، حيث أنهم نجوم حقيقية ومواهب أصيلة ، فلتوظف طاقاتهم فبهم تصالحت إدارة المسرح مع الجمهور الذي فاق بجماله الفني حد التصور، في ظل الإمكانيات المحدودة بعد أن كان هناك تغريبا للفنانين الحقيقيين من ممثلين ومخرجين ومؤلفين ، والأمس ليس ببعيد فالضجة الإعلامية التي صاحبت وواكبت عرض كلام في سرى القميء الفج السخيف ، وحصوله على جائزة أحسن عرض جماعي، يجعلنا ندرك أن الخلل الحقيقي في الحياة والحركة المسرحية إنما ينبع من التغريبة الإلزامية للمؤلفين والمخرجين والممثلين من أصحاب المواهب الجادة.
وأطالب بحق الجماهير أن ترى العرض على مسرح السلام ، إذ يفوق في جودته ما قدمه البيت الفني للمسرح ، والبيت الفني للفنون الشعبية والاستعراضية على الأقل عام 2007 ، ولم لا ؟!!!، فهذا العرض هو لقاء السحاب المسرحي بين الكاتب أبو العلا السلامونى صاحب الكلمة والموهبة والإبداع والموقف ، والمخرج عبد الرحمن الشافعي شيخ المخرجين في مجال السير الشعبية، وهو كما يعرف أهل الفن المسرحي من رواد الفن الشعبي، والحامل للوائه مع الراحل زكريا الحجاوى، وحتى الآن ، وقد حقق إيقاعا عاما للعرض ، إذ عزف باقتدار وحرفية على كل مفردات العرض ،لما أجاد اختيار النص حيث التيمة ( النمط والنوعية ) بمفرداتها ، وشخوصها ( الراوي ، القرية ، الآلات الشعبية ، السينوغرافيا ، المناسبة للسيرة الشعبية ، وخاصة أنه من العروض المسرحية القليلة التي تحتفي بنصر أكتوبر ،وأحكم قبضته الفنية على الدراما زمانا ومكانا وحدثا ، وقد أفلح في الاستحواذ على مشاعر الجمهور وتوترهم وتشويقهم من أول العرض لآخره، يصفقون لأداء الممثلين ، يتمايلون تارة على إيقاعات الذكر ،يرددون الأغاني مع الكورال ، حتى نهاية العرض وذروته وترديد الجمهور لأغنية هي البداية من هنا / لازم بقوة عزمنا / نحمى انتصارنا بدمنا / مانضيعوش.