السينما الفلسطينية..
صراع ضد الأمواج
المخرجة "بثينة كنعان الخوري" أنموذجا
زياد جيوسي
عضو لجنة العلاقات
الدولية في
اتحاد كتاب الانترنت العرب
لم يكن دخول المرأة إلى عالم السينما الفلسطينية معجزة كبيرة، فالمرأة الفلسطينية تميزت بمشاركتها الرجل في كافة ميادين النضال، ومن يتابع الحركة النسوية الفلسطينية، يجد أن المرأة الفلسطينية شاركت وما زالت تشارك، منذ بدايات القرن الماضي، جنباً إلى جنب مع الرجل.
لكن أردت بهذا المقال الإشارة إلى المصاعب التي تواجهها السينما الفلسطينية
عموما، ووجدت في المخرجة بثينة الخوري أنموذجاً، وحالة تمثل من خلال مسيرتها
هذه المصاعب، فهي من الجيل الشاب الذي تفتحت عيناه على عالم السينما في ظل
الاحتلال، ولم يعايش السينما الفلسطينية عبر تاريخها خصوصاً مرحلة تواجد الثورة
الفلسطينية في لبنان. من هنا نجد أن الجيل الشاب انطلق بمسيرته بعيداً عن
مؤسسات الثورة الفلسطينية، وفي مرحلة حاسمة من مسيرة الشعب الفلسطيني، فمعظم
هذا الجيل السينمائي نبت وترعرع في ظل دخول السلطة الفلسطينية إلى الوطن إثر
اتفاقات أوسلو، ومن هنا تميزت مسيرة بثينة الخوري، فهي بدأت مسيرتها في ظل
الاحتلال وقبل وصول السلطة الفلسطينية إلى الوطن، ومعروف حجم المعيقات التي
يضعها الاحتلال أمام المواطن العادي، فكيف أمام المبدعين الفلسطينيين، ففي فترة
إعدادها فيلمها التسجيلي الأول الطويل"نساء في صراع"، واجهت معيقات الاحتلال
الكبيرة، وتقول بثينة عن تلك العقبة: " أردت أن يكون لدي إمرأة محتجزة سابقة من
غزة، لكن كما هو معروف، فالسلطات الإسرائيلية تمنع التنقلات بين الضفة الغربية
وغزة، أردت أن تتكلم في فيلمي سجينة داخل السجون الإسرائيلية ولدت للتو مولودها
الأول هناك، وكلت محامية إسرائيلية، لكن كل الطلبات رفضت. استمرت هذه المسألة
ستة أشهر".
وهذه ليست العقبة الوحيدة، فالمخرجة بثينة الخوري واجهت كماً من المعيقات
دفعتها للصراع ضد الأمواج، ففي الانتفاضة الأولى وجدنا منطقاً يسود بالقول:
"عندما توجد الانتفاضة، فإن كل شيء يصمت أمام الألم". تقول بثينة عن هذه
المرحلة في أكثر من مقابلة صحافية أجريت معها: "أغلقت دور السينما بعد قليل من
بداية الانتفاضة الأولى العام 1987، حسب رأيي كان ذلك خطأً كبيراً، كان التفكير
السائد في ذلك الوقت أنه لا يمكن أن نتسلى بينما الناس يقتلون. للأسف انتشر هذا
المنطق والبعض وصل إلى أقصى الحدود، أحرقوا سينما في غزة.. وهكذا أصبحنا أفقر
ثقافيا،. الفن لا يجب أن يصمت في أي ظرف، على العكس من ذلك، يجب أن تؤلف وسيلة
جديدة لمقارعة الاحتلال، ويجب أن نعرض الانتفاضة كعمل فني لمجتمع متكامل"،
مضافاً إلى ذلك العقبات الاجتماعية المتعددة، ففي إحدى المقابلات الصحفية نجد
سؤالا يوجه إليها حول عدم اختيارها نساء محجبات في فيلمها "نساء في صراع"، وهو
سؤال يدلل على شرخ اجتماعي بدأ يسود المجتمع الفلسطيني، فتجيب بثينة: "لقد أردت
أن أظهر الوجهة الأخرى لفلسطين، تلك التي يغيبها الإعلام في العالم الغربي بشكل
ممنهج: المرأة دون حجاب، لأن المواطن في العالم الغربي يجب أن يفهم أن النساء
لدينا لسن فقط المحجبات، والحجاب ليس علامة تأخر كما يصورونه، لكن هناك نساء
يناضلن دون أن يلبسن الحجاب، وقد تعرضن للتعذيب ولا زلن يعانين إلى الآن، ولا
يعتبرهن العالم الغربي حتى محررات، في العالم الغربي يبحثون عن ذرائع
لتجاهلنا".
وفي الفيلم نفسه تواجه المخرجة عقبات أخرى حتى من الأسيرات السابقات، فالكثير منهن، وبتقديري لأسباب اجتماعية بحتة، يرفضن فكرة الظهور أمام الكاميرا والتحدث عن المعاناة والتجربة القاسية التي تعرضن لها، فقضايا مثل الاغتصاب والإساءة الجسدية وتعرية المرأة من قبل المخابرات الإسرائيلية في التحقيق، ما زالت بعرف الكثيرين وبحكم العادات والتقاليد لا يجوز التحدث عنها، ويعتبرونها قضايا تمس بالشرف وتخدش الحياء، وتقول بثينة رداً على هذه الأقاويل: "ما الذي يخدش الحياء عندما تتحدث أسيرة عن تعريتها والطلب من والدها، تحت تهديد السلاح مضاجعتها، أو حتى اغتصابها، أو عندما تتحدث أخرى عن محاولات اغتصابها بالعصا، خلال فترة التحقيق معها ؟!".
إن المجتمع يساهم من حيث لا يدري بالتستر على جرائم الاحتلال بدلاً من تعرية
ممارساته القذرة، ويدلل على ذلك الصعاب التي واجهت المخرجة للعثور على نساء كن
أسيرات ويقبلن التحدث عن تجربتهن، ولم تعثر إلا على أربعة نساء، فتقول عن ذلك:
" لقد كن الأنسب من جهة الوعي السياسي والاجتماعي، والأكثر قدرة على الوقوف
أمام الكاميرا، والكلام بلهجة نقدية عن موضوعات نسائية. كن قادرات على التعبير
عن الامتهان النفسي والجسدي، بموضوعية وحرية، ليس فقط داخل السجن بل خارجه
أيضاً،. هؤلاء النساء اغتصبن، وسير بهن عاريات داخل زنازين السجناء الرجال،.
رسمية أصيبت بأكبر صدمة، سحبوها عارية أمام والدها لكي تنهار وتعترف،. التقيت
أكثر من "37" فلسطينية وانتهيت إلى "4" منهن، ليس لأني أردت ذلك، لكن لأن
الكثير منهنّ لم يُردن أن ينشرن تفاصيل حياتهن في السجن، وأخريات لم يردن أن
يتذكرن تلك الحقبة من حياتهن".
ولا تقف العقبات هنا فقط، فالمجتمع أيضاً، لا يتقبل مثل هذا العمل، وفي
المقابلة نفسها تقول بثينة عن ذلك: "قسم كبير من مجتمعنا يريد أن يتركهن على
بعد ما، لأنه يريد أن يخفي أسطورتهن، هن من طلائعيات العمل الفدائي، مهما كان
الأمر فهن في موقع مرموق نضالياً وتاريخياً لأنهن قررن القيام بقفزة كبيرة في
حياتهن. لقد أردن أن يكن أكثر من أمهات مناضلين وزوجات ثوار، أردن أن يكنّ في
المقدمة.. بهذا الفيلم لم أكن أهدف إلى إنزالهن من مكانتهن، بل إخراجهن من
وحدتهن. أردت إظهار وجهن الإنساني، نقاط ضعفهن، خيبة أملهن، آمالهن، أحلامهن.
أردت أن يعلم مجتمعنا الثمن الذي دفعنه في السجن... من روضة ومن عائشة انتزعت
الأمومة، من الفلسطينية ذات الوجه الجميل انتزع الحلم، كانت تعتقد أنها هكذا
ستغير العالم، لتكتشف في النهاية أنها فقط تصنع زهرة على ورقة بيضاء".
العقبات الاجتماعية لا تتوقف عند حدود الرفض، لكنها في بعض الحالات تنتقل إلى مرحلة الفعل المضاد، فمخرجة مثل بثينة الخوري تقترب بالكاميرا من خطوط المجتمع الحمراء، ستتعرض بالتأكيد للفعل المضاد وليس الرفض فقط، فحين بدأت خطواتها من أجل تصوير فيلم عن الجرائم البشعة المسماة "جرائم الشرف"، تعرضت فيها المخرجة لتحطيم الكاميرا والتهديد بحرق المنزل إن لم تتوقف عن التصوير وإثارة الموضوع، وحتى جرى تحذيرها من أن تتحدث لوسائل الإعلام أيضاً، وظهرت هذه المسألة بوضوح حين حصلت قصة بين فتاة مسلمة وشاب مسيحي، فجرى قتل الفتاة ومهاجمة قرية الشاب وحرق عدد كبير من المنازل تعود لعائلة الشاب وأقربائه، وحين حاولت بثينة التصوير مُنعت وقُمعت وحُطمت الكاميرا، وقالت بثينة: " ذهلت، كيف حطموا هذه الكاميرا التي حملت همومهم، ووثقت لأوضاعهم".
أما بثينة فما زالت تصر على خوض التجربة، وإخراج الفيلم رغم كل التهديدات والعقبات: " كثيرون حذروني من هذا الفيلم بالتحديد، وطلبوا مني الابتعاد عن حادثة الطيبة على وجه الخصوص، كما طلبوا مني عدم الحديث لوسائل الإعلام عن نيتي إتمام الفيلم، لكنني مصرة على ذلك، فلو ابتعد الجميع عن رصد الحقيقة، ومواجهتها، سنبقى كما نحن، وسيخضع للكثير من الأفكار الخاطئة، ورغبات المجتمع التي لا تزال تكبل الكثيرين منا".
إن محاولات الاقتراب من الخطوط الحمراء جزءٌ من السباحة ضد التّيار فنرى بثينة الخوري أول سينمائية فلسطينية تخرج فيلماً مشتركاً مع مخرجة إسرائيلية، تقول عن تلك التجربة: "بدون شك شعرت بالرهبة، لكن فكرة الفيلم تنتصر لمعاناة الشعب الفلسطيني، وهذا المهم... لم لا يتم التعاون مع إسرائيليين يرفضون الاحتلال، خصوصاً أنهم سيكونون أكثر تأثيراً منا لدى الإسرائيليين وفي الغرب، كان ذلك من خلال فيلم "نساء بالجوار"، والذي رصدت من خلاله معاناة المرأة الفلسطينية، من خلال مقابلات مع نساء في مخيم الأمعري للاجئين برام الله، في حين رصدت "ميخال أفياد" نظرة الإسرائيليات من أمهاتٍ لجنود الاحتلال، ومستوطِنات، لمعاناة المرأة الفلسطينية".
أما التمويل والإمكانات المادية فهما عقبة أخرى كبيرة، فالإمكانات الذاتية لا تسمح بالمضي قُدماً بالإخراج السينمائي، لذا يضطر المخرج للبحث عن التمويل لدى الجهات المانحة، وهنا نجد طرفين بشكل أساس، الطرف الأول هو الأوروبي ولكن له اشتراطاته. تقول بثينة عن مرحلة البحث عن تمويل لفيلمها "نساء في صراع": "عندما توجهت إلى الاتحاد الأوروبي وضعوا شرط أن نحتفظ بمسافات متساوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كيف يمكن أن يتحقق هذا في موضوع فلسطينيات محتجزات في السجون الإسرائيلية؟ السلطة الفلسطينية حسب علمي لم تحتجز إسرائيليات".
أما الطرف الآخر فهو طرف إسرائيلي، وتقول بثينة حول هذا الموضوع: "أما أن أتوجه للجانب الإسرائيلي فهي فكرة مرفوضة سلفاً من قبلي، بالرغم من أن غيري من السينمائيين الفلسطينيين اتجه للجانب الإسرائيلي في التمويل، موضوع الفيلم شديد الحساسية وأنا معنية أن يكون من منطلق فلسطيني بحت، ولذلك عانيت حتى تم إنتاج الفيلم"، أما حول الطرف الأهم وهو الطرف الفلسطيني فتقول بثينة الخوري: ": لتنفيذ الفيلم احتجنا إلى تمويل، لكن في الأراضي المحتلة لا أحد يهتم بتمويل إنتاج مستقل.".
وهكذا نجد أن صناعة السينما في فلسطين تواجه صعوبات كبيرة تحد من أفقها وتقدمها، وتواجه من الصعاب الشيء الكثير ومن العقبات بمختلف أشكالها ما يقف كالجدار في وجه المخرج/ة الفلسطيني /ة، ومع ذلك تمكنت السينما الفلسطينية أن تثبت موجودية عالية، ولعل هذه الصعاب شكلت دافعاً كبيراً للتحدي وإثبات الوجود، فشاركت السينما الفلسطينية في كم كبير من المهرجانات العالمية، وتمكنت من حصد الكثير من الجوائز، وفي تجربة المخرجة بثينة الخوري أنموذجاً ينطبق على باقي المخرجين الفلسطينيين بشكل أو بآخر، لذا كان العمل في السينما الفلسطينية صراعاً ضد التيار.