حصان الدم.. روعة التجريب وحرفيته
د. كمال يونس
عرضت الفرقة الوطنية للتمثيل التابعة لوزارة الثقافة العراقية على مسرح ميامى بوسط القاهرة مسرحية حصان الدم عن مسرحية مكبث ، إحدى التراجيديات الأربع الكبرى للكاتب الإنجليزي الأشهر وليم شكسبير ، إعداد وسينوغرافيا وإخراج جبار جودي ، دراماتورج ( مستشار أدبي و فني للنص ) د.يوسف رشيد ، بطولة محمد هاشم ، فرح طه ، كاظم النصار ، مع ضيفي الشرف رياض شهيد ، حيدر منعش .
العرض يدور حول السعي إلى العرش بأية وسيلة ، وخاصة إذا كانت الزوجة تحمل نفس التشوق والوله بالسلطان ، وتتفق وزوجها على نيل التاج وركوب حصان الدم ، والغاية تبرر الوسيلة ، بل وهى الحافز والباعث لعدم تراخى مكبث زوجها عن مسعاهما ، حتى ولو كان الطريق إلى العرش ملطخا بالدم الذي خضب يديهما ، وهنا نورد ماورد على لسان مكبث لحظة تردده في حواره الذاتي بينه وبين نفسه ( المونولوج ) في المعاجلة الدرامية التي قمت بها لمسرحية مكبث :" لو أن الأعمال الشريرة إذا تمت ولت.. دون أن تترك عواقبها الوخيمة في هذه الدنيا.. لكان الإسراع في تنفيذها هو الخير كل الخير.. ولكن الدماء تخلف دماء ..وإزهاق الأرواح إنما هو من تلك الجرائم التي لها عقابها في هذه الدنيا.. فمن سفك دم غيره..فقد أهدر دمه للأقدار وحوادث الأيام.. إذ يعرض دمه للسفك.. من دس سما في كأس غيره.. قضى العدل عليه أن يتجرع من نفس كأس السم هو الآخر "، وعلى الرغم من هذا قتل مكبث كل من وقف في طريقه الملك الذي ما أساء إليه ، وصديقه بانكو ، وبقية الذين أعتقد أنهم يقفون حائلا بينه وبين العرش والتاج ، ولم يفلح في الهرب سوى مكدف ( رمز المعارضة ) ، وغرقت البلاد في بحار من الدم على يد مكبث ، ما عبر عنه لينوكس حين سئل عن حالها بقوله " إيه يا بلادي الحبيبة.. ما عاد للحر فيك مقام.. لقد أصبحت قبرا لأهلها..لايسمع فيها غير صوت الأنين والنحيب ..واليتامى والثكلى وهم يستصرخون السماء أن تنقذهم مما هم فيه.. أو يستنزلونها اللعنات على مكبث الظالم ..الذي انفض الشعب من حوله.. وأحاط نفسه.. بقتلة.. ومجرمين يرتدون زيفا ملابس الجند الشريفة ..ومن آن لآخر يثور عليه البعض .. ولكنه يفلح في قمعهم..كالوحش المفترس المتعطش للدماء" ، وفى النهاية يقتل مكبث على يد مكدف من أجل بلاده، لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ بلاده في الطريق نحو استتباب الأمن والحرية وزوال الظلم.
العرض المسرحي حصان الدم تفرد بمعالجة درامية فنية فردية وهى عرض لمسرحية رسخ في الذهن مضمونها ، ولكن أن يستطيع المعد والدراماتورج صياغة حوار العرض، وإسقاطه على الحاضر العراقي ، وما يدور فيه ، من خلال عرض يركز على أهم مرتكزات ومحطات الدراما وذرواتها في المسرحية الأصلية ، في سرعة وتركيز وتكثيف شديد للأحداث ، بإيقاع درامي متميز ، يقفز بالمشاهد ويصحبه في خفة ورشاقة إلى بؤرة الأحداث، وبواطن سخونتها ، متجاوزا زمانها ومكانها الأصلي ليلبس عرضه وما به من إحداث ثوب الزمن الحاضر ، ويؤكد إمكانية الحدوث في أي بلد ، ينتهج فيها الحاكم هذا المسلك ، ويأسر ذهنك ويستطيع أن يربطها دون إشارة أو تلميح مباشر على أحداث العراق الجريح ، تاركا الجمهور كل يشاهد العرض بطريقته ، ويفسر حسب الزاوية التي كون منها رؤيته ، مستخدما في ذلك الملابس العصرية ( البزات السوداء للحاكم ومن حوله ومعارضيه ) ،والملابس العصرية لليدى مكبث ، سيطرة اللون الأسود على جو العرض ، مشهد السلم الخلفي الذي أُعلن عليه موت الملك ، استخدام الخشبة على اتساعها، وقد أحسن استغلال مناطقها من حيث دقتها ومناسبتها للأحداث في تحريك ممثليه ، مستخدما السينما موظفا إياها راصدا لأهم انفعالات مكبث حين علم أن مكدف قادم ليحاربه ، وتارة وهو يستنفر شعبه مطمئنا إياه بل ومبشرا بالنصر ، وخطبة مكدف من على منصة خاصة ، واستخدام مكدف للسيف ليشهر ومكبث مسدساتهما ليقتله مكدف ، وهو خاطبه سأقاتلك بسيفي ،لينجح نجاحا ساحقا في إيهام وتقبل المشاهد أنه العرض يدور في الزمن الحاضر دون أي إرباك لعقلية المشاهد الذي يعرف القصة جيدا .
أجاد المعد والدراماتورج بناء الشخصيات الرئيسية الثلاث للعرض ، ونجحوا في اختزال باقي الشخصيات الأصلية ، والحفاظ على كيان العمل ومضمونه دون خلل ، إذن هنا يتضح العرض عن تجريب حقيقي الكلمة هي مناطه ، والفن أداته .
تحقق لمخرج العرض إيقاعا عاما قويا للعرض حين استطاع توظيف عناصر عرضه ، الممثلون وقد أحسن اختيارهم كل في الدور المناسب ، وقد لعب كل منهم دوره في انسجام مع أداء زميله ، فتحقق للأداء المسرحي رونقا خاصا يوصف بالسهل الممتنع ، حين غلفه الصدق الفني والموهبة وطبيعية الأداء ، الإضاءة استخدمت بحرفية نادرة ومن أجمل استخداماتها ، من جانب المسرح مسلطة على مكبث ، لتخفى بعض ملامحه وتظهر الأخرى للتدليل على معاناته وآلمه وتشتته بين حبه للعرش وضميره وزوجته ، وتارة من خلف مكبث وبانكو يقف أمامه ، وتارة من الجانبين وتلاقيها في منتصف المسرح أثناء الحديث بين مكدف ومكبث ، في ظلل من الضباب الممتزج بالإضاءة الخافتة ، وأيضا في مشهد جنون الليدى مكبث حين تسلطت عليها الإضاءة الحمراء من فوق رأسها مباشرة ، ثم ارتفعت تدريجيا لتسلط من أعلى ، وهنا أجاد المخرج استخدام الإضاءة شدة وخفوتا ، وألوانا مما يدلل على تفهمه العميق لاستخدامها المسرحي ، ودلالاتها الدرامية ودورها في تعميق الحدث دراميا ،الموسيقى واكبت الحدث وعمقت الإحساس بمشاهده ، الرموز والدلالات عميقة المضمون ، غير مركبة ومنها استخدام الليدى لكرسي العرش الذي يسير على عجلات، وأحد المشاركين في العرض يقوم بدفعها من الخلف ، وهى تجلس عليه في خيلاء ، اصطحاب وملازمة الكاميرات والمصورين لمكبث في تحركاته ( الإعلام المضلل ) ،استخدام المسدسات بدلا من السيوف رغم أن الحوار به أن مكدف ومكبث سيتقاتلان بالسيف ( الحاضر ).
توافرت للعرض أسباب النجاح على المستويين الجماهيري والنقدي لعدة أسباب منها أنه أسقط أحداثه على الأوضاع الراهنة ، ومس هموم وقضايا المشاهدين ، وثانيها توافر الكوادر الفنية المبدعة في العرض على مستوى الدراماتورج والممثلين ، ،والمخرج جبار جودي مخرج العرض دارس للمسرح ، حاصل على البكالوريوس ، ودبلوم في الإخراج المسرحي ، وأخرج للمسرح العراقي ثلاث مسرحيات وهى فوفى وفافى ، محنة ، الأغنية الأخيرة ، وحاز على العديد من الشهادات التقديرية والجوائز منها جائزة أفضل ديكور وإضاءة ، من مهرجان حقي الشبلى عام 1989، وأفضل مصمم إضاءة في مهرجان منتديات المسرح ، ووسام الإبداع كأفضل مسرحي شاب1994، وجائزة أفضل سينوغرافيا بمهرجان المسرح العراقي 1994، وتبقى من وجهة نظري كناقد عن هذا العرض أنه تجريب واع حقيقي ، ومن خير ما قدم في الدورة ال 19 لمهرجان القاهرة الدولي للمهرجان التجريبي بالقاهرة.