الافتراء على تراثنا المسرحي

د. كمال يونس

[email protected]

فى موجة هى الأشرس والأعنف نجد هجوما مستمرا فى عنف وضراوة لايترك لنا فرصة لالتقاط الأنفاس ، هجوم شبه منظم للنيل من تاريخنا من كافة النواحى ، سياسيا وفكريا وفنيا وعلميا، وآخرها ذلك الاتهام السخيف لمسرح الستينات فى مصر  بأنه كان بوقا للسلطة ،والنيل من سمعته وتاريخه الفنى  فى محاولة يائسة للإطاحة بما لمسناه وعشناه وتوارثناه، وما وصلنا من إنتاج فنى راق ، وكتاب ومخرجين وفنانين أثروا حياتنا الفنية،ولذا أجرينا  هذا الحوار مع مجموعة متميزة ،من كافة الأجيال، وفيهم شهود عيان على عصر الستينات.

الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم

لم يكن مسرح الستينات بوقا للسلطة ، بل كان مسرحا مزدهرا متنوع الأداء وأبرز ما يميزه جذبه الهائل للجمهور .

 المخرج د.أشرف زكى (رئيس البيت الفنى للمسرح ونقيب الممثلين والمدرس بالمعهد العالى للفنون المسرحية)

بلا شك فإن مسرح الستينات يمثل محطة هامة جدا فى تاريخ المسرح المصرى ، وكان أهم ما فيه ذلك التحاور بين السلطة ، والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلاد ، ولا ننكر أن مسرح الستينات هو الذى وضع البنية الأساسية لمفهوم المخرج ودوره ، والعلاقة بين مؤلف النص ومؤلف العرض ( المخرج ) ، ولقد كان أكثر حظا ،لأن سخونة الأحداث السياسية على الصعيدين العربى والعالمى كانت الأرض الخصبة التى قدموا من خلالها إبداعاتهم، فعرضوا مواضيع استطاعوا أن يعبروا عنها أحسن تعبير، فى تنوع وثراء فكرى وفنى ، ويجب القول أن مسرحنا الآن ما هو إلا امتداد لتلمذتنا على الأساتذة من جيل الستينات ، كيف يمكن للمرء أن ينكر أساتذته كرم مطاوع وسعد أردش ، ولا أعتقد أن مسرح الستينات كان بأية حال بوقا للسلطة ، وإلا لما كانت الإستقالة الرباعية فى أواخر الستينات ( من سعد أردش ، أحمد عبد الحليم ، جلال الشرقاوى ، كرم مطاوع ) إلا لإختلافهم مع النظام .

المخرج الكبير سمير العصفورى(  وأحد رموز الستينات  الفنية المتألقة فى سماء الإبداع المسرحى حتى الآن  )

كان مسرح الستينات متنوعا وشاملا له تاريخ مشع ما يزال أثره موجودا للآن ، انظر حولك لتجد أن الموجودين الآن على الساحة من الأسماء المحترمة هم أحفاد وأبناء وتلامذة لمسرح الستينات فلقد كانت تلك الحقبة الممتدة حتى الآن هى العصر الذهبى لكتاب المسرح المصرى، ولو كانوا بالفعل ولدوا فى الأربعينات ، إلا أنهم تربوا وكبروا فى أحضانه، وأصبحوا شخصيات ناجحة، ومن تلاهم أمثال محمود دياب وعلى سالم .

كان الشعب والسلطة  والكتاب كتلة واحدة كانوا جميعا عبد الناصر، ولم يكن هناك أى إحساس بالفصل ما بين السلطة والشعب والكتاب ، ولقد كان معظم الكتاب من أصحاب التوجهات الاشتراكية ، ولم يعلمهم أحد إياها ، إذ كان حلم الجميع هو الانتصار للطبقة الوسطى والفقراء والمهمشين ضد الإقطاع ، وحتى بعد النكسة حاول بعض الكتاب أن يغيروا من نغمتهم، بالتعاطف أو التبرير لما حدث وحاول البعض أن يكونوا أبواقا للسلطة وفشلوا ،وانظر لتلك المجموعة من الكتاب في السبعينات والثمانينات من محمود دياب وعلى سالم مرورا بفوزي فهمي وسمير سرحان ومحمد عنانى ومحمد سلماوى ،ويسرى الجندى و أبوالعلا السلامونى ولينين الرملى كانوا خريجى فكر الستينات  البطن الكبرىللإبداع ، لم يملى أحد عليهم ما يكتبوه ، ولم يتحول أى منهم إلى بوق للدولة ، ولدى دفوعى فمثلا عبد الرحمن الشرقاوى خاض معارك شرسة ضد المؤسسة الدينية التى لا ترتاح للمسرح ولا أفكاره  بسبب مسرحية الحسين ، لم تسانده الدولة ، ولو كان المسرح بوقا للدولة لما صودرت أعمال ميخائيل رومان ، فى الوقت التى ازدهرت فيه الحركة النقدية على يد د.محمد مندور ، ود.على الراعى، ود.لويس عوض ، واحتفى المسرح بإبداعات يوسف ادريس ،  وسعد الدين وهبه ، مع توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، ويحيى حقى ، إنه من غير الممكن ونحن فى تلك الحالة من العوز والفقر الفكرى والفنى والنضوب على المستوى الدرامى، أى حالة قحط حقيقية وانتكاسة فاضحة للحركة النقدية ، إذن ليس من العدل عقد أى مقارنة بين فترة الستينات الساطعة الناجحة وفترة قاحلة وفارغة، ولعل من أهم معالم وأسباب ازدهار تلك الحقبة وجود وزراء أمثال د.عبد القادر حاتم ، وثروت عكاشة ، بما لهم من عقلية تؤمن بالفن ورسالته وتدعمه بقوة وإصرار ،فتركوا المثقفين والفنانين ليقدموا رؤاهم الشخصية، لقد كان مسرح الستينات وليد ظروف ثقافية وإبداعية وقومية وفنية كجزء من حماس شعب يستشعر خروجه من غيبوبة إلى يقظة ، شعب ينظر ويتقدم نحو الأمام ويتخطى النكسات ,انا شخصيا أعمل فى المسرح المصرى لأكثر من أربعين سنة ، وقدمت مسرحا لم يوظفنى أحد أو يوظف فكرى وفنى ، ولم أصطدم مع أحد يقول لى نعم أم لا، ويجب ألا نأخذ الكلام عن مسرح الستينات بجدية لأنه صدر ممن لم يعاصره ، كما أنه كلام مجتزأ، وليس حقيقيا.

الفنانة سهير المرشدى

شهدت الستينات  نهضة شاملة فى كل مناحى الحياة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وصحيا وصناعيا وثقافيا ، ولكنها حين  شملت المسرح توجته بالجلال والرقى وأبرزته كمنتج راق لمجتمع يسعى نحو تأكيد هويته وذاته ، لتنهض معه السينما والإذاعة والتليفزيون ، حيث أولته الدولة رعايتها، فانطلق المبعوثون لكل بلاد الدنيا، ليتعلموا وينقلوا ما تعلموه إلينا، ومنهم كرم مطاوع، ونبيل الألفى ،وفتوح نشاطى ، وسعد أردش ,احمد عبد الحليم ، أحمد زكى عبد الحليم، كمال يس ،ورشاد عثمان ، ليثروا المسرح المصرى ،يدا بيد مع الكتاب من أمثال نعمان عاشور وسعد الدين وهبه ، والفريد فرج، ويوسف إدريس، ولم يكن هذا قاصرا على المسرح فقط ، بل امتد ليشمل السينما صلاح أبو سيف , يوسف شاهين ،لقد رأينا منظومة إبداعية متكاملة ، استوعبت كل التيارات الجديدة فى كافة الفنون ، إذن فالنهضة لم تكن قاصرة على المسرح فقط ، ولم يكن أولئك المبدعون أبواقا للدولة ، وإلا ما  أبدعوا الكرنك والزوجة الثانية ،وشىء من الخوف ، وفى الإذاعة عواد باع أرضه ، لقد كان الجميع يسعون لتأكيد وترسيخ قيما اجتماعية وثفافية فى سبيل النهوض بالمجتمع ككل ، أبواق للدولة ؟!! كيف ؟!! وقد قدموا وطنى عكا ، والفتى مهران ، حدث فى أكتوبر ، الحسين شهيدا ، الحب فى حارتنا ، يا طالع الشجرة ، أبواق إيه ؟!!!، وليس عيبا أن يكون الفن بوقا لدولة اتحدت فيها رؤى الحكومة والشعب بفنانيه ومثقفيه.

المخرج مراد منير

المسرح بشكل عام أكثر فن ينعكس عليه الواقع الإجتماعى و السياسى والإقتصادى ، والثقافى ،للمجتمع بشكل عام ، والأهم أن المسرح يتأثر سلبا وإيجابا بإحساسك بالنعرة القومية ، والإعتزاز بالذات ، التى ما إن تختفى إلا ويفقد المسرح حساسيته المفرطة ، بهذه السمات الأساسية كان مسرح الستينات تعبيرا عن حالة الوطن وعن حالة الشعور المتركز حول ارفع رأسك يا أخى فقد ولى عهد الاستبداد ،فحينما رفع الوطن رأسه رفع المسرح هامته ، ورفرفت للفن رايات ،وشاهدنا مباراة عظيمة بين كبار مؤلفى النص المسرحى ، الذى قلما يجود الزمان بأمثالهم ، نعمان عاشور ، وانتهاء بنجيب سرور ، ، نعم صحيح أنه كانت هناك إرهاصات فى الأربعينات ، ولكن ازدهر المسرح لأن الوطن كان يتنفس الكبرياء ، وما كانت ثورة يوليو بحاجة لأبواق ، لأن السلطة كانت وطنية ، فانصهرت هى والشعب فى بوتقة واحدة ، ، أما السلطة الزائفة الواهية فهى التى تحتاج لأبواق ، فهل أم كلثوم وعبد الحليم كانوا أبواقا للسلطة ؟!! ..لا.. فما زلنا نسمعهم للآن، وما زلنا نستمتع بمسرح الستينات فهو بناء فز لم يتداعى حتى الآن، فهو جيل أساتذة الإخراج الشرفاء الفنانين الحقيقيين، الذين  لا نجرؤ ولا نستطيع اتهامهم بأنهم أبواق ، ومن ذا يجرؤ على القول بأن مسرح الستينات كان بوقا للسلطة، إذن فعليه أن يقرأ فى أى فرع من فروع المعرفة ليدرك أن هذا الكلام ما ينبغى أن يقال .  

المخرج حسام الدين صلاح

رأيت مسرحيات الستينات مسجلة فى برنامج كنوز مسرحية وهى بحق كنوز حقيقية ، وتعاملت مع مخرجى مسرح  الستينات كرم مطاوع ، حسن عبد السلام ، جلال الشرقاوى ، وكانوا مدارس رائعة، وقد مثلوا تيارات مسرحية وفنية عدة ، وحالات خاصة من الإبداع المسرحى  المتفرد والجماعى ، كان عصر نجومية المخرج والمؤلف ، وتلك الفترة هى أنضج فترة حيث قدمت عبد الرحمن الشرقاوى ويوسف ادريس والفريد فرج ونعمان عاشور ، سعد الدين وهبة وكل المؤلفين العظام ، الذين قدموا فترة من أزهى عصور المسرح المصرى والعربى ، ولا أنسى الفرافير ليوسف إدريس، فتلك فترة من الصعب أن يجود الزمان بمثلها ،مخرجون وكتاب كبار ، استطاعوا أن يقدموا لنا إبداعا حقيقيا، بما واكبها من نقاد عظام أمثال الدكاترة مندور ولويس عوض وعلى الراعى ، ومن العجب أن قدموا لنا المسرح المعارض ، جلال الشرقاوى وحمدى غيث ،وفصلوا من وظائفهم ، وقدموا أعمالا  معارضة للنظام مثل الفتى مهران من إخراج كرم مطاوع ، وبطولة عبد الله غيث ، كانوا يقدمون ما يرون فيه مصلحة الشعب والفن ، فى فترة هى الأزهى من عصور المسرح المصرى ، من قال أنهم كانوا أبواقا،أو أن مسرح الستينات كان أبواقا للنظام؟!!! ، فالفن فى أبدع حالاته ما كان يعرض للرأى والرأى الآخر ، من أجل تحقيق المفهوم الواسع للحرية والعدالة ، وإلا لما اكتسب إبداعهم هذا الخلود والبقاء بل والثراء على مر الزمان ، من يقول هذا لا علاقة له بالفن والإبداع.

المخرج حسن الوزير

مسرح الستينات هو الذى  نحيا من فيض عطائه للآن ، وهو المغذى لتلك الأحاسيس التى صغناها فنيا فى السبعينات والثمانينات، وإنكار هذه الحقبة الزاهرة مسرحيا وفنيا وفكريا، لهو جحود حقيقى للجهد الرائع المخلص لتلك الشخصيات التى ندين لهم بالفضل فى تغذية وجداننا، وما نحن عليه الآن من مكانة فنية ، من ذا يستطيع أن ينكر سعد أردش ، كرم مطاوع ، أحمد عبد الحليم ، سمير العصفورى ، أحمد زكى عبد الحليم ، وسعد الدين وهبة، والفريد فرج ، ونعمان عاشور ، ويوسف ادريس ، ونجيب سرور ، الذين لولاهم ما فهمنا أوأدركنا ماهية فن المسرح ، نعم كانت الدولة ترعى المسرح وتتبناه ، ولكن ليس ذلك معناه  أن المسرحيين كانوا أبواقا لها ، لقد مثلت تلك الحقبة أهم خطوة تأسيسية فى تاريخ ونهضة المسرح المصرى، ورعايته والاهتمام به ، وأوفدت البعثات للخارج ، فى كل بلدان الدنيا شرقا وغربا ، ليسطع المسرح المسرحى ويتالق، وتبقى فى الأذهان

وفى الوجدان تلك الحقبة كدليل على ثراء المسرح المصرى ونهضته بشكل مؤكد لا يحتاج إلى دليل.

الناقد أحمد الألفى

لقد كان مسرح الستينات حالة متفردة فلقد كان فى نهضة فكرية وفنية تواكب ظروف المجتمع ، وإلا ما عرضت "قهوة الملوك ، تأليف لطفى الخولى ، ولما استوعبوا كتابات نعمان عاشور ويوسف ادريس وتوفيق الحكيم ن ولما برز رجالات المسرح المصرى كرم مطاوع ، نبيل الألفى ، سعد اردش، الذين لا تنكر بصماتهم الواضحة على المسرح المصرى حتى الآن ، لقد شهد المسرح المصرى تقدما ملموسا أوائل الخمسينات وبلغ الذورة فى الستنينات  وأوائل السبعينات وكان يجذب إليه فطاحل الكتاب، فقد كان المسرح طليعة للمجتمع ، ومرآة لواقع شعبه ، وبانوراما عريضة لواقعه الذى يعيشه ، ولقد كانت هناك أعمال كثيرة تحمل فكرا معارضا للدولة ،وقدمها المسرح بالفعل ،ولقد تعلم مخرجوه بالخارج ليزدهر المسرح المصرى ، ثم المسرح العربى بالمساهمة فى إقامة وإنشاء المعاهد الفنية المسرحية بالبلاد العربية مثل الكويت والسودان ، وغيرهما من البلدان العربية ، ولقد كان هناك حركة نقدية قوية فتية حمل لواءها د.مندور ود.لويس عوض ود.على الراعى، ولم يكونوا أبواقا للنظام ولكن كان هناك حشد للكلمة والفن والطاقات لتلبية احتياجات المرحلة التى تطلبت أن تستوعب كل الطاقات .

الممثلة والصحفية أمينة سالم

لقد فجرت الثورة  روح العزة والكرامة، وأطلقت الوجدان والإبداع، ليحدث أزهى فترة من ازدهار الفنون والأداب ، ولقد احتفى مسرح الستينات بالمؤلف والمخرج والممثل، لتنطلق المواهب فى شتى المجالات ،والتى تشكل رصيدنا الحضارى الفنى ونعيش على ذ كرها الجميل، أم كلثوم ، عبد الحليم ، نعمان عاشور ، صلاح جاهين ، كمال الطويل ، الفريد فرج ، سعد أردش ، أحمد عبد الحليم ، أحمد زكى عبد الحليم ، سمير العصفورى ، وغيرهم وغيرهم ، وما كانوا أبواقا للدولة، ولكن عبروا عن ذواتهم وشعبهم وأمانى وهموم أمتهم ، فاكتسب فنهم صفة الخلود . 

الممثل وحيد فؤاد

لقد اكتسب مسرح الستينات صفة الخلود لرقيه الفنى والإبداعى، حين ارتقى بالثقافة ومزجها بالفن ليعلى من قيمة الفكر ، وليرتقى بالمواطن فكريا وفنيا وجماليا ووطنيا ، كانت أبرز ملامحه نجومية الكلمة والمخرج ، والأداء الجماعى، وليست النجومية الفردية التى تطوع الفن لإبراز وتأكيد مكانتها فقط، دون الاهتمام  بباقى العناصر المشاركة فى العملية الإبداعية ،لقد احتوى هذا المسرح الفنانين بمعنى الكلمة، الذين عبروا عما بداخلهم وما يدور فى مجتمعهم، طموحاتهم أحلامهم أصدق تعبير ، فكانوا أبواقا لضمائرهم الوطنية.

الحاج على الدين لطفى (70 عاما .. موظف سابق.. واحد من الجمهور  )

عالج مسرح الستينات مشاكل البلد، وعبر عن الشعب بطريقة مهذبة ، زمان كانوا فنانين فعلا ، وبمعنى الكلمة فى التأليف والإخراج والتمثيل ، وكانوا صادقين  مع أنفسهم، ولذلك صدقهم الشعب ، ولذلك كان لأعمالهم صدى فى نفوسنا ، وأنا لا أشاهد الآن من المسرحيات إلا القديمة، ومسرح محمد صبحى فقط لأنه فى جديته اعتبره امتدادا لمسرح الستينات المحترم.