الملك لير .. ملك العروض المسرحية
الملك لير .. ملك العروض المسرحية
د. كمال يونس
يعرض المسرح القومي المصري رائعة وليم شكسبير الخالدة مسرحية الملك لير على مسرح ميامى ( فؤاد المهندس ) بالقاهرة،إخراج الأستاذ أحمد عبد الحليم ، بطولة يحيى الفخرانى ، أحمد سلامة ، أشرف عبد الغفور ، منال سلامة ، سلوى محمد على ،محمد ناجى ، مروة عبد المنعم، وكوكبة متناغمة من الفنانين، وهى تشهد إقبالا جماهيريا رائعا،بالرغم من إعادتها عدة مرات ، والمسرح دوما كامل العدد ، الجمهور، حتى استرد بها البيت الفنى للمسرح ثقة جمهوره ، بعد الكبوة آلتي شهدتها الحياة المسرحية ، وانصراف الجمهور عن العروض .
تدور قصة العرض حول لير الملك العجوز الذي يؤثر أن يستمع للنفاق والكلمات المعسولة ، ويرفض الصراحة والصدق ، لأنه يعتبرهما موجعين ، لذا أعطى لمن نافقنه من بناته جونريل و ريجان ، وحرم كورديليا صغرى بناته الصادقة الوفية ، وتمر الأحداث ليصطدم بعقوق بناته ، لتموت الوفية الصادقة من جراء تلك الأحداث ، ونرى الوقيعة بين الأب ( جلوستر ) والابن الفارس الشهم النبيل ( ادجار ) ، على يد ابن السفاح ( ادموند ) ، هل مسرحية للملك لير تحكى عن عقوق الأبناء فقط ، أم تحكى عن الأب الذي يعق نفسه قبل أن يعوقه أبنائه ؟ ، أم إلى الحكام الذين يحيطون أنفسهم ببطانة السوء ، وما أكثرهم ، ويحيطون أنفسهم بالبطانات الفاسدة؟ ، الحقيقة أنها هذا كله ، وهو ما أعطى تلك المسرحية هذا الخلود والاحتفاء الجماهيري والفنى.
لقد تجمعت لهذا العرض أسباب عدة للنجاح تكاملت فيما بينها، مما جعلها من العلامات البارزة ليس فقط في تاريخ المسرح القومي ، ولكن أيضا في تاريخ المسرح المصري ككل ، ومن عام 2002 ( أول عرض لها ) يستمر عرضها ليس فقط في مصر ( القاهرة والإسكندرية ، المنيا ، محكى القلعة )، بل في جولات بالبلاد العربية ، الكويت ، دبي ، أبو ظبي،الملك لير رائعة وليم شكسبير أبو المسرح العالمي ، قامت بإعدادها د. فاطمة موسى ، راعت فيها إبراز جماليات النص باللغة العربية ، في أمانة متفردة ، نقلت من خلالها بواطن العظمة في هذا العمل ، مبرزة العمق الإنساني لأبعاده ، ولم تخضع الكلمات للقوالب الأدبية من شعر أو نثر متكلف ، بل صاغتها بلغة سهلة ، تعتبر
نموذجا يحتذي للتعامل مع النصوص المسرحية المترجمة ، بلغة سلسة يفهمها الجميع ، ولا يضطر أن يصطحب معه معجما لغويا ، أو يسأل الجالس بجواره عن معاني الكلمات لغة عصرية ، بعيدة تماما عن المتحفية والمهجور من الألفاظ والكلمات ، ولقد أفلحت تماما في نقل العبارات الأدبية الهامة في الحوار دونما إخلال ولا انتقاص من دلالاتها الدرامية، مما يتيح للمثلين التعامل بإحساس عال لمفهوم النص والحوار ،مما ينعكس على أدائهم ليظهر طبيعيا غير متكلف .
ولقد ساعد على إبراز مضمون النص المسرحي ، وساهم بشكل كبير في وصوله للمشاهد تلك الشخصية المخدومة فنيا ودراميا ، والتي صاغ حوارها شعرا عذبا بالعامية المصرية أحمد فؤاد نجم ، كاشفة أنها الضمير الشخصي الذي يعلق على الأحداث بجوانبها السياسية والاجتماعية.
المخرج أحمد عبد الحليم أثبت بالدليل القاطع بإخراجه لهذه المسرحية بالذات " أن الكبير كبير "، وفق كل التوفيق في اختيار الممثلين ، وتوظيف قدراتهم الإبداعية ، والجسدية ، بدءا من إمكانياتهم وقدراتهم التمثيلية ،الملامح، وحتى لون البشرة خاصة فى إختيار بنات لير، جونريل الشقراء (منال سلامة )، ريجان السمراء ( سعاد محمد على ) كورديليا البيضاء ( مروة عبد المنعم ) ، مما عمق الـتأثير الدرامى للشخصيات ، وإنفعالاتها، في أدائهم لأدوارهم ، وحركتهم الانسيابية على خشبة المسرح، واستخدام مفردات العرض المسرحي بمهارة فائقة .
الديكور التجريدي للراحل سمير زكى ، أضفى الفخامة و الأبهة على الصورة المسرحية ،فيسر التنقل بين المشاهد من خلال وحدات الديكور الرمزية البسيطة ، بسيطة جلوستر ( الدائرة ) ، وقصر جونريل ( السياج )، والشجرة التي توهمها لير شبحا .
ولعبت الإضاءة المبهرة في تقنية استخدامها دورها الدرامي ، و تكاملها مع العناصر الأخرى ، مثل استخدام الشاشة في لوحة العاصفة، والدائرة الدموية الحمراء التي رافقت ( ادموند الشرير ) ،والدائرة الضوئية في مشهد موت كورديليا ) ، مع التنوع في درجة الإضاءة وتناسبها مع المواقف الدرامية من حزن وحيرة وذهول ، مع الإضاءة المختلطة بالظلال على وجه جونريل ، لتكشف عن الشر والطمع والجحود الكامن بنفسها.
المؤثرات الصوتية واكبت العرض وعمقت التأثيرات الدرامية ، مع الموسيقى التصويرية للعرض لراجح داود ، أفلحت في إبراز المكنون الدرامي، والمضمون العام ، والمشاعر الخاصة بكل شخصية،
الملابس لمحمود مبروك فخمة ، ألوانها وتصميماتها تتناسب مع ملامح الشخصيات، اللون الأحمر والأصفر والبرتقالى ( جونريل )، والأسود ( لادموند وريجان )، والوردى ( كورديليا ) .
الاستعراضات الرمزية التي صممها المبدع د. عاطف عوض، كانت جزءا من العمل ولم تكن مقحمة عليه ، ذابت في نسيجه ، وعمقت الأبعاد الدرامية، مثل استعراض الحرب ، العاصفة ، الأقنعة.
الأداء التمثيلي للنجم الأول للمسرح يحيى الفخرانى ( الملك لير ) الذى استخدم كل قدراته فى الأداء ، من ارتعاشات صوتية ، تباين الأحاسيس تبعا للمواقف الدرامية ، الجنون ، التداعي في القوة ، الذهول ، الحزن ، الندم ، كأنما كتب شكسبير هذه المسرحية واضعا الفخرانى نصب عينيه ، فهو واحد من أبرع الممثلين الذين قاموا بأداء لير ، و خشبة المسرح وأداؤه الحكم، وخير شاهد على ذلك.
وكشفت المسرحية بين طيات عرضها عن براعة تمثيلية لنجم المسرح الشاب الأول حسب استفتاءات عام 2006 ، النجم أحمد سلامة ، الذي أفلح تماما في تقمص شخصية الشرير الذي يتمتع أيضا بخفة الظل ( ادموند ) ، ولقد كان شريكا حقيقيا في بطولة هذه المسرحية.
عهدي صادق ( البهلول ) ناظر مدرسة التنكيت والتبكيت ، ما بين السخرية والدموع والخوف والفزع من توالى الأحداث المروعة ، يعلن عن نفسه كفنان لم تكتشف كوامن طاقاته الإبداعية كما يستحق ، وهو فعليا من أبطال العمل الذي أبرز شخصية البهلول في صورة فنية راقية ومؤثرة.
أشرف عبد الغفور( جلوستر ) أستاذ في فن الأداء المسرحي، بلغته الفصحى السلسة.جسد حيرة الأب ، وندمه، وإخلاصه للملك ، بانفعالات متوازنة طبيعية.
سلوى محمد على ( ريجان ) طاقة فنية هائلة وأداء تمثيلي متلون رائع، جسدت اللؤم والخبث ، والغيرة ، والجحود ،والحرمان العاطفى ، منال سلامة ( جونريل ) جسدت الجمال الذي يخفى بين طياته الطمع والحقد والخيانة ، والشر .
مروة عبد المنعم ( كورديليا) الابنة الطيبة، تفوقت على نفسها ، وتبشر بنجمة مسرحية واعدة.
و أبرز العرض طاقات فنية ممتازة أبرزها هذا العمل ،مخزونها الإبداعي هائل، مجدي إدريس( كورنوال )، محمد ناجى ( لورد كنت)، إبراهيم الشرقاوى(الباني)،عماد العروسي ( ادجار ) ، حسام الشربينى ( ملك فرنسا ) ، محمود البنا ( ازوالد ) فوزي المليجى ( الفارس ) شباب مسرحي واعد ، أتقن كل منهم أداء دوره في انضباط وتناسق وسلاسة ، بدون مبالغة، واستخدام أصوات مستعارة.
من هذا يتضح أن أحمد عبد الحليم المخرج المسرحي قد أحكم بمهارة استخدام عناصر العرض المسرحي بأسلوب السهل الممتنع ، ومعه المخرج المنفذ للعرض صاحب الخبرة الكبيرة عبد المنعم فضلون، ليعزف الجميع بقيادته سيمفونية رائعة جماعية ،من الأداء المسرحي الراقي ، في ظل نجومية كاسحة لنجم العمل الفنان يحيى الفخرانى ، وتفان وموهبة إبداعية متدفقة للممثلين المشاركين فى العمل.
هذا العرض ، أفتتح به مسرح ميامى ، التابع للمسرح الكوميدي ، ليس فقط لأن إنتاج المسرح الكوميدي لا يرقى ليفتتح به مسرحه ، بل لأن الجودة الفنية لتلك المسرحية خير وسيلة لمصالحة الجماهير، التي انصرفت عن المسرح ، مما يشكل تهديدا حقيقيا لهذا الفن الإنساني الرائد، إذن فالبيت الفني للمسرح مطالب أمام الجمهور ، وضميره الفني ، أن يقدم أعمالا قيمة مثل الملك لير ، وإلا غنى له الجمهور" خاصمتك بينى وبين روحى.. وصالحتك..و.... تانى".