العلاج بالموسيقى
أسلوب نبيل عزام وكريمة صقلي!!
كلاديس مطر
*من الأشياء التي تخلقها الموسيقى في نفس سامعها هي تحريكها ضميره الذي قد يكون نائما لدهور. وهذه ميزة قد لا نعثر عليها في أي من أمور الحياة الأخرى. وليست كل أنواع الموسيقى هي قادرة على تحريك الضمير وإعادة النفس الخاطئة إلى رشدها، فما نسمعه اليوم من موسيقى حديثة معدنية راقصة هي تماما تخدير لا للضمير فحسب وإنما لكل أشكال الحس..
وحين يتحدثون اليوم عن أهمية الموسيقى "الجيدة" في علاج بعض الأمراض النفسية والعصبية، أقول إن العرب استخدموا الموسيقى العربية القديمة في العصرين الأموي والعباسي من اجل معالجة المرضى النفسيين والعقليين. و كان الرازي في بداية حياته موسيقيا مهما وعازفا ممتازا على العود وكذلك الفارابي الذي يقال انه وضع آلة القانون. أما كتاب ابن سينا "الشفاء" ففيه ملخص عن الشفاء بالموسيقى. وهناك اليوم أكثر من خمسة مناهج علمية طبية عن طريق العلاج بالموسيقى في أوروبا والعالم اذكر من بينها العلاج الموسيقي التحسيني، والغناء والمناقشة، المخيال والموسيقى المرشدة، وأسلوب اورف شولفيريك الموسيقى العلاجي، والتدخل الإيقاعي الافضائي.. وكلها مناهج من اجل تحفيز الجهاز العصبي المركزي للإنسان وتحسين أدائه الوظيفي والتغلب على الإعاقة.
ومساء الأحد الفائت (في قاعة زيبر هول- هوليود في لوس أنجيليس) أضاف نبيل عزام منهجا جديدا إلى هذه المناهج العلاجية الجديدة بالموسيقى، بحيث تعالج لا عددا معينا من الأمراض الجسدية والنفسية وحسب، وإنما لكي تقوم بدور أقوى إلا وهي إعادة الوجدان المشتت (في الغربة) إلى سكته الطبيعة، ولقد استطعت أن أميز عدة أسس اعتمدها المايسترو المبدع نبيل عزام من اجل منهجه العلاجي بالموسيقى وهي كالتالي:
11- اللجوء حصريا إلى موسيقى الزمن الجميل، حيث الألحان تخرج من قلب صانعها و موهبته وعواطفه الايجابية ولا تخرج من أي مكان آخر كما هي ألحان اليوم. فعزام يدرك أن الدواء لا يكمن في علاج العوارض وإنما في السبب الخفي للمرض. وموسيقى مثل سيد درويش وعبد الوهاب وفريد الأطرش، إنما هي جرعات العرب العلاجية وليس "الهارد روك" أو "الميتال ميوزيك" مثلا.
2- اللجوء حصريا إلى حناجر فذة مخملية مثل المطربة "الهامة" كريمة صقلي التي تعتبر "مرجعا في الأغاني العربية الأندلسية ورمزا للمغرب يتجلى في الانفتاح والروحانية". وصوت مثل كريمة لا يعتبر أداة علاجية شافية للروح والوجدان وإنما كما رأيت أنا بنفسي "كانت محفزا للضمائر المهاجرة" التي أدركت في لمحة وهي منتشية طربا، أن الوطن لا يمكن أن يموت وان "الآه والليالي" هي الجرعة الحاسمة.
3- التوزيع الأوركسترالي الذي أتى مبهرا جدا بحيث وضحت كل جملة موسيقية على حدا، بل إن عزام أعطى لكل عازف ولكل آلة حيزا مهما لها فلا يضيعوا في غمرة التوزيع، وهكذا كان اثر كل منها في المتلقي حاسما لا ينسى. فالسلم الموسيقى لدى عزام نشيط وحيوي مع احتفاظه بالابعاد واللحن وعدم العودة إلى البداية قبل نهاية المقطوعة، أي بمعنى أنها تنتهي فعلا بالجزء الثاني في مقامه، بما ينسينا تماما جو البداية.. وهو أسلوب لربما لا تعرفه كثيرا الموسيقى العربية التي تركز على مقاماتها كثيرا إلى درجة التوهان في "السلطنة".
4- "عربنة" أربعين عازفا أمريكيا بقدرة الموسيقى. فالمستمع إلى الدقة و الجمال والإبداع التي تعزف بها الحان عبد الوهاب و سيد درويش.. يتساءل في الحال كيف حصل هذا !!! والحق إن الأمر يتجاوز مجرد قراءة النوتة إلى الإحساس الفعلي بالجملة الموسيقية التي يلعبها العازف. واعتقد إن عزام كان لديه الأثر الأكبر في "عربنة" هؤلاء الشباب و"الشيب" الذين كانوا يعزفون بحيوية قل نظيرها.
إن لقاء نبيل عزام وكريمة صقلي البارحة كان علاجيا لكل من حضره.. فلقد لمحت احدهم وهو نصف مغمض العينين في وضعية صلاة لمدة ساعتين يصغي وشبه ابتسامة مرسومة على فمه.. ترى بماذا كان يفكر؟ هل كان الصوت الذهبي لكريمة أم كمان نبيل عزام أم الأداء المبهر للفرقة أم تراه كل هذا معا...؟
الحق لقد تحدثت كتب مثل "الأغاني" و"العقد الفريد" وكتب "إحياء الدين" أن الجمل كان يغير خطوته بحسب الإيقاع والوزن والغزال تسهل قيادته بالموسيقى والحيات تنسحر والنمل يتجه إلى النار ويرتمي بها وإن بعض الطيور تسقط ميته وهي محلقة متى استمعت إلى الموسيقى.
لكن الإنسان، وأقولها يقينا، يعود إلى رشده على اثر جملة موسيقية ما، وربما تقلب هذه العودة أشياء وقناعات كثيرة لديه، أو ربما تزيد من كمية الحب في قلبه تجاه العالم حوله أو تجعله أكثر رقة ووجدانا..
يوم الأحد الفائت نبيل عزام وكريمة صقلي فعلا كل هذا.. الحمد لله لم تكن حفلتهما في الهواء الطلق وإلا لكانت الطيور المحلقة قد سقطت على رؤوسنا ونحن في غفلة عن الزمن.