لمـاذا أنتقـد بعض العلمـاء

لمـاذا أنتقـد بعض العلمـاء

في مواقفهم من الفنون

نجدت لاطـة

[email protected]

       كلما انتقدت عالماً قيل لي : ( لكل عالم اجتهاده ، فإن أخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران ) . وأتساءل : هل الإسلام أرض مشاع لكل عالم ، له أن يجتهد فيه دون أن يكون له حدّ يقف عنده ؟؟ حاشا لله أن يترك دينه العظيم لاجتهادات الإنسان دون أن يضع حدوداً له ، مهما كان علم هذا الإنسان .

       وصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال بأن العالم إن أخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران ، ولكن ذلك يكون حينما يجتهد العالم ضمن الحدود المقبولة والمعقولة ، بحيث يراعي في كل مسألة شئون العباد ومصالحهم ، ويراعي الواقع الذي يعيشونه ، فلا يخاطبهم بشيء لا تحتمله عقولهم أو إيمانهم ، ولا يأمرهم بشيء لا يحتمله واقعهم الذي يعيشونه .. لأننا أُمرنا في ديننا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم وعلى قدر استطاعتهم ، وإن لن نفعل ذلك كان ذلك فتنة لهم .

       وقد حذّر الرسول صلى الله عليه وسلم العلماء من الإكثار من الفتاوى وذلك في قوله ( أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار ) والخطاب هنا موجه للعلماء وليس لعامة الناس ، لأن الإفتاء مختص بالعلماء . ومن هذا الحديث نفهم أنه يوجد صنف ثالث من العلماء ممن يتصدرون للإفتاء ، هذا الصنف يستحق دخول النار ، لماذا ؟ لأنه أفتى من غير علم ومن غير أن يُلمّ بالمسألة التي أفتى فيها .

       وأضرب مثالين ليتضح الأمر أكثر :

       المثال الأول : قصة الصلاة في بني قريظة ، حيث أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة بأن يصلوا صلاة العصر في بني قريظة في غزوة الأحزاب ، وقد اجتهد بعض الصحابة في ذلك وقالوا بأن المقصود من ذلك هو السرعة في الرحيل إلى بني قريظة وليس تأخير الصلاة ، لأنه لا يجوز تأخير الصلاة ، فصلوا في الطريق .. وصلى بقية الصحابة في بني قريظة . وعندما أخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك لم يعاتب أحداً على اجتهاده ، أي أنه اعتبر ذلك من الاجتهاد المقبول . ويدخل هذا الاجتهاد ضمن القاعدة ( إن أخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران ) .

       المثال الثاني : حين كان بعض الصحابة في سرية ، فناموا في الطريق فأجنب أحدهم ، وحين استيقظ وجد البرد شديداً ، أي يصعب عليه الاغتسال ، ولكن بعض الصحابة أفتى له بوجوب الغسل حتى ولو كان البرد شديداً ، فاغتسل هذا الصحابي ، ولكن جسمه لم يحتمل البرد فمات . وحين وصل الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قتلوه قتلهم الله . فاجتهاد الصحابة هنا اجتهاد مرفوض في الإسلام ، ولا يدخل ضمن الاجتهاد الذي يعطي صاحبه أجراً واحداً ، وإنما يعطي صاحبه إثماً كبيراً ، لماذا ؟ لأن المجتهد غيّب عقله تماماً في هذه المسألة ، ولم يراعِ نتيجة الغسل في البرد الشديد .

       ومن هنا كان العلماء قديماً يحذرون جداً من الإفتاء ، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بإصدار كلمة ( حرام ) وكان كثير منهم يقول : لا أعلم . ومما يروى عن الإمام مالك أنه لو مشى أحد وراءه وكتب ما يلفظه من قول ( لا أعلم ) لكتب صفاحات كثيرة من ذلك .

       أما علماؤنا المعاصرون فنجد كثيراً منهم على النقيض من ذلك ، فما أسهل عندهم من التلفظ بكلمة ( حرام ) .. وأما قولهم ( لا أعلم ) فكأنهم لا يعرفونها .. فهل وجدتَ أيها القارئ أحداً من العلماء المعاصرين ممن يفتون في الفضائيات يقول أمام المشاهدين : لا أعلم ؟؟؟

       وأضرب مثالاً على تجاوز أحد العلماء المعاصرين الحد المعقول في الفتوى ، وهو الشيخ وهبي الغاوجي ، وهو من العلماء المعروفين في سوريا ، فقد أفتى بحرمة التمثيل ، أعني التمثيل في السينما ، سواء أكان الممثلون من الملتزمين أم من غير الملتزمين . وقد احتج لذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم عنّف على من يعيش بوجهين ، يأتي هؤلاء بوجه ويأتي آخرين بوجه . وقال الشيخ الغاوجي بأن الممثل هو أحد المقصودين بذلك ، لأنه يمثل مرةً دور الرجل صالح ويمثل مرةً دور الرجل الشرير .

       وأتساءل : هل الممثل هو المقصود بذي الوجهين ؟ ما هذا الفهم الغريب ؟ إلى هذه الدرجة يستهان بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيُشرَح شرحاً معوجاً ليس فيه ذرة عقل ؟ هل الشباب الإسلامي الذين يقدمون مسرحيات إسلامية هم المقصودون بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أليس تحريم التمثيل المنضبط بتعاليم الإسلام هو وسيلة إعلامية مهمة جداً في توجيه المشاهدين ؟

       والمشكلة أن مثل هذه الفتوى تدمّر العمل السينمائي الإسلامي ، لأن العمل السينمائي الإسلامي يحتاج ـ في بداية نشأة السينما الإسلامية ـ إلى الدعم  المالي من الأغنياء الملتزمين ، ولكن حين يجد الأغنياء الملتزمون اختلاف العلماء في االتمثيل لا يدعمون السينما الإسلامية ، لأنهم يخشون أن ينالهم إثم من ذلك . لذا تجدهم لا يقدمون أموالهم إلا في شيء متفق عليه من قبل العلماء مائة بالمائة ، مثل بناء المساجد والمستشفيات ، أو التصدق علـى الفقراء والأيتام والمجاهدين أو غير ذلك . وبذلك يُحرَم العمل الإسلامي من إنشاء سينما إسلامية .

       ومثال آخر : في بداية الثمانينيات ، أصدر أحد المشايخ في الأردن فتوى تحرّم صوت أبي راتب على النساء ، يعني لا يجوز للنساء أن يسمعن صوت أبي راتب وهو ينشد ، واحتج لذلك بأن صوت أبي راتب يغري النساء ..

       مع أن أبا راتب حين كان ينشد ويصدر الأشرطة كان المنشدون الرواد ( أبو مازن ، أبو الجود ، أبو دجانة ) قد توقفوا عن الإنشاد ، ولم يبقَ في الساحة إلا أبو راتب . فهل من مصلحة الدعوة أن يُحرَم النساء من أناشيد أبي راتب ؟ أنا لا أدري كيف يفكر هؤلاء العلماء ؟ الواحد منهم يجلس في مسجده ويصدر فتاوى ، ولا يعرف ماذا يدور في الشارع .

       فهل تريد مني أيها القارئ أن لا أنتقد مثل هؤلاء العلماء أصحاب هذه الفتاوى الخرقاء ؟ إذا كنتَ لا ترى ذلك ، فأنا أرى أنه واجب علي شرعاً أن أنتقدهم وأن أهاجمهم . لأن الفنون وسائل خطيرة جداً في توجيه الشعوب ، وإن الغرب لم يستطع أن يغزو بيوتنا ويخرّب أجيالنا إلا بهذه الوسائل الخطيرة .. فإذا نحن حُرمنا من استخدامها حُرمنا من مخاطبة الشعوب .