( ليالي الصالحية ).... نموذجا
( ليالي الصالحية ).... نموذجا
محمد سداد عقاد
(ليالي الصالحية) واحد من قلائل المسلسلات الناجحة والمميزة ، من تأليف وحوار: سلمى اللحام واحمد حامد، واخراج : بسام الملا ، ومن غير مبالغة يمكننا القول انه من أفضل ما قدمته الدرامـا السوريـة طوال الفترة المنصرمة ليس لجودته الفنية فحسب، بل لأنه ولاول مرة خالف المزاج العام لهيئات الانتاج والرقابة والتوجيه في القطاع الفني السوري (الخاص والحكومي) الى مزاج آخر صادق وأكثر انسجاما .
المزاج السابق في المسلسلات السورية التاريخية السابقة والتي كانت تعيد كتابة جزء من تاريخ سورية ، مزاج حاد الطبع له خطوط اساسية تظهر في اغلب تفاصيل ومحاور العمل الدرامي ، منها على سبيل المثال:
1- اعتماد الصراع الطبقي كأساس ومحراك للعمل .
2- التحرر الاخلاقي ميزة ابطال المسلسل ورواده .
3- القيم والاخلاق وما يتصل بهما جزء من التراث الخاضع للنقد والتبديل خاصة وانهما يرتبطان دائما بالتخلف والظلامية والتعصب .
4- الدين في غالب شكله متحالف مع البرجوازية والاقطاع .
5- التدين عنصر مهمش وغائب عن حياة الناس عموما .
6- ورموز التدين وشخوصه عموما متخلفون ، متعصبون ، بعيدون عن الواقع وهم جزء من حالة التخلف والركود .
7- ومظاهر التدين محدودة وتحمل في داخلها التناقض المفضي الى الالغاء (الحجاب ، والصلاة ، والحج.......) الا ما يتعلق بالشكلية الاحتفالية......
هذه العناصر هي ملامح مشتركة في اغلب ماكتب ونفذ من مسلسلات عن تاريخ سورية المعاصر والحديث، ابتداء من مسلسلات الابيض والاسود في السبعينات، وانتهاء بحمام القيشاني وخان الحرير وامثالها ، وهي عناصر غابت بشكل شبه تام من مسلسل (ليالي الصالحية) ليكون حقيقة متفردة في سبت المسلسلات السورية .
وللحقيقة فانه ورغم بساطة فكرة المسلسل (الرمز) الا وهي (الامانة) فقد كانت مؤثرة ساطعة مشرقة ، وقد نالت كل ثناء وتعاطف من رموز المسلسل ومن مشاهديه في حشد هادف نبيل ومميز، في وقت تحولت المسلسلات الى استعراضات لازياء ومكياج وموديلات وأجساد تضيع وسطها اية فكرة او قيمة .
لقد اكتسب المشاهد جرعة عالية من حب الامانة وهو يتفاعل مع البطل (عمر) في دفاعه عنها، لترتسم في ذهن كل منا امانة وامانات .......فهي ارض الوطن ساعة ، وماله وثرواته ساعة ، وعقول ابنائه واهله في ساعة اخرى ، ......لنيشغل الناس بالامانة احياء وازكاء واطراء، فيما يرتسم في الافق ملامح النص النبوي الشهير (اذا ضيعت الامانة فانتظر الساعة)، تكريسا لمكانتها ودورها .
في مسلسل (ليالي الصالحية) عدد غير متناه من القيم والاخلاق الاصيلة الراقية الني ندر لمسلسل سوري ان اظهرها، منها التكافل، ونصرة المظلوم، والكرم، والشهامة، وبر الوالدين، وصلة الرحم ..... لقد نجح المسلسل في رسم صور رائعة لاشكال منها بصدق وتفاعل ، دون سخرية او تملق، ودون ان يجعلها تنهار كما في كثيرمن المسلسلات .
في مشهد رائع للبطل (عمر) وقد زينت له زوجته ان يظلم عمته بعد ان اوغرت صدره تجاهها، نرى البطل يطلب من عمته ان تقول الحقيقة، وعندما يسمعها يدرك مدى صدق قولها في مقابل تزييف زوجته، فيهرع الى منزله ليصب غضبه على زوجته، غير ان العمة تسأله بالله ان يسامح زوجته ويغفر لها معتذرة لها باعذار تكفر عن سيئتها وضغينتها، في مشهد من أجمل مشاهد الوفاء عكس مانراه في اغلب المسلسلات التي يظهر فيها بكل سهولة نجاح غواية الزوجة، وصغر عقل الزوج، وقلة درايته وخضوعه بالتالي مباشرة لابتزاز الزوجة، فتخرب الديار وتنقلب الرحم قطعا واوصالا مجزأة .
صلاة الفجر؛ ربما كان المسلسل السوري الوحيد الذي سمعنا فيه ان الصلوات تؤدى في المساجد، ويؤديها اكابر ابطال المسلسل حيث يلتقون في صلاة الفجر لاداء حق ربهم ولدراسة اوضاع جيرانهم برا ورحمة في نادرة من نوادر المسلسلات رغما عما يتمناه كتاب المسلسلات السورية الحاملين لنظرة يسارية لا تقيم للدين وزنا الا في الجانب السالب .
قيمة الوفاء والحرص على النفع حتى عندما يتعلق الأمر بالزواج من ثانية، صورة اخرى رائعة، اذ تقوم زوجة المختار بالبحث عن زوجة (لزوجها) شابة(ضرة لها) لعلها تنجب له مولودا ذكرا يخلف ابنه(حاتم) الذي قتل غيلة، فيفاجئ ذلك الزوج الطيب(رفيق السبيعي) ، فينكر على زوجته ذلك بصدق ودون اي تملق او مداهنة او مراوغة، الى ان تصل الى اقناعه بفائدة ذلك (فهي لم تعد تستطيع الانجاب)، وهو رجل مكتمل الرجولة، ويجب ان يكون بجانبه شاب يسنده، لذلك تضحي بأجمل مالديها،(خصوصية زوجها الشهم الصالح) لصالح أخرى تشاركها في حياتها، ليكون الولد والنسل، دون أن نرى فرح الانتصار على وجه الرجل الذي سيسر عندما تجلب له زوجته زوجة أخرى صبية، كما نشاهد في المسلسلات الأخرى........!!!!
انها عجيبة من كاتب ومخرج ارادا، وخلافا للمألوف، قهر نمطية سائدة غالبة في دراما العرب، كارهة لكثير من الصور النبيلة والجميلة لبعض قواعد الأسلام واحكامه.
صورة(الامام)، الرمز الديني المباشر، ولمرة نادرة كذلك لم تجتمع فيها كل السلبيات، وهي امر أكثر من غريب، بل على العكس كان دورها ايجابيا في كل ما ذهبت اليه تقريبا، وحتى عندما تعرض المسلسل لحادثة تدمير مسرح ومنزل أبي خليل القباني في دمشق بداية القرن المنصرم، ورغم ان جزءا من الحوار كان مفتعلا، فقد كان موقف الامام على العموم موقفا رصينا وليس سيئا، فهو قد لمح الى مافهم عن ابي خليل نتيجة تصرفاته، من غير ان يعتبر ما حدث من اساءة اليه، أمرا مقبولا او مسوغا، الامر الذي يمكننا بسهولة فهمه الساعة مع اختلاف مستوى الثقافة والمعرفة .
ربما يطول ويطول تعداد مخالفات (ليالي الصالحية) لمعاصريه-ان صحت العبارة-ولعل مخالفاته تلك هي التي كتبت له القبول والنجاح الذي لمسناه، فهو قد لامس واقعا بصدق، وحمل فيه الكاتب والمخرج مسؤولياتهم بأمانة كما دعوا في محور المسلسل واساسه، فلم يختلقا واقعا لاتعرفه الا اقلية في ارض سورية، لقد عادا الى الجذور، ونقبا عن حقائق الناس، واضافا اليها ما يجب اضافته من خير وحسن وجمال دون تزييف او تشويه، فقدما دراما ناجحة، جميلة، مؤثرة، نافعة، وتقود الى الخير بدلا من دراما كاذبة تدعى الواقعية ولكنها تصور فضائح مجتمع نادر ومحدود العدد مع اضافات نابية بعيدة عن ثقافة الغالبية وتراثها، مستوردة من مسلسلات الأخرين وافلامهم .
عندما أشاد الشيخ يوسف القرضاوي بمسلسل(الحاج متولي) كانت اشادته (باختصار) لانه ولاول مرة فقد رسم المسلسل صورة واقعية أو قريبة من الواقع لقضية تعدد الزوجات، مخالفا بذلك نمطية سائدة كانت تجسد تلك القضية بأبشع صورة دون ان تكلف نفسها عناء ادراك بعض مسوغاتها الشرعية او الواقعية، على حين ان مسلسل (ليالي الصالحية) يحتاج الى اكثر من كلمة من الشيخ وامثاله ليقولوا عنه ما يستحقه، ولعله يمكننا بسهولة القول انه نموذج لعمل فني (اسلامي) .
(ليالي الصالحية) نموذج لعمل فني يجب تشجيع اهل الانتاج وصناعه على الاكثار منه، جودة في النص والاداء والتمثيل، ورفعة في القيم وعلو بها، ومطابقة للواقع واقترابا منه، فيما يبدو انه حقق معادلة نادرة في عالمنا الفني المحيط الذي يأبى الا ان يحقق جزءا من تلك المعادلة ، فهل يتكرر؟؟؟؟