هاملت
د. حبيب بولس *
مسرحية "على خطى هاملت" والتحول من مركزية الفرد الى الجماعة
مسرحية "هاملت" لشكسبير، مسرحية طبقت شهرتها الآفاق، حيث ترجمت الى معظم لغات العالم ومثلت مئات المرات على المسارح، كما وافلمت اكثر من مرة.
هذه المسرحية استمدت اهميتها وشهرتها من كونها تركز على سمة انسانية هامة تقع في داخل كل منا وأعني سمة التردد فشخصية هاملت شخصية تعاني من صراع داخلي رهيب يتمحور حول العبث وضرورة الفعل، او حول العاطفلة والعقل. فهاملت كما رسمه شكسبير مستمدا خيوط شخصيته من قصة دانماركية قديمة، امير شاب، مثقف، متدين، عاشق، رقيق العواطف، يقع تحت وطأة القدر الذي يعاكسه ويقمع مسار حياته الطبيعي ويحوله الى انسا ن آخر محكوم بما يحثه عليه طيف والده الميت، أي الثأر له من عمه القاتل، الدنيء والسكير واللامبالي، الذي لا هم له سوى ان يجري وراء لذّاته. وهنا يحاصر هاملت بين نارين: ايصدق كلام الطيف ام يكذبه؟ عقله يقول له انه مجرد طيف، وعاطفتة تقول انه ليس طيفا عاديا انه طيف والدي. فما العمل؟
من خلال هذا الصراع بين ان افعل او لا افعل يسبر شكسبير بقدرة هائلة نفسية هاملت ويتغورها وينزل الى اصقاعها، وذلك من خلال مونولوجات معمقة فكرا وفلسفة تطال جوانب عديدة من الحياة، بحيث صار هاملت كشخصية مسرحية شخصية بشرية نموذجية خلدت مع الدهر وصارت على فم الزمان.
ومما دفع الى شهرة المسرحية والى خلودها عامل آخر هو كونها غنية بعناصر مسرحية متلونة، فهي كتبت ومثلت للجمهور الانجليزي في عصر الملكة اليصابات بين اواخر القرن السادس عشر واواسط القرن السابع عشر. وعصر "اليصابات" له من الاهمية الكثير في تاريخ انجلترا، اذ انه عصر النهضة والتنوير والفرص الفردية المتاحة الى جانب التناقضات، ذلك لان انجلترا صارت فيه سيدة العالم خاصة بعد ان هزمت الاسطول الاسباني الشهير "الارمادا". هذا العصر الحافل بما ذكر نتج عنه جمهور مسرحي كبير مختلف الاهواء والمشارب والذائقة الفنية، هذا الاختلاف شكل امتحانا وتحديا لكتاب المسرح في تلك الحقبة الزمنية حيث كان عليهم ارضاء ذائقة ذلك الجمهور، المتعدد الاهتمامات بدءا من اللصوص وانتهاء بافراد العائلة المالكة. فالمسرح مفتوح للجميع، لذلك كان على المسرحية ان تلبي اهتمامات الجميع. من هنا جاء غناها المسرحي وتلونها. ففي المسرحية الواحدة كما في هاملت نجد قصة محبوكة، كما نجد القوة ممثلة بالمبارزات، ذلك الى جانب العواطف الملتهبة والحب الصافي والخديعة والنميمة والخيانة والمواقف الساخرة المضحكة المؤثثة بالتوريات.
وهاملت كمسرحية شكلت نظرا لاحكامها دراميا وبنيتها القوية، نموذجا للدارسين في اواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في وضع مبنى عام للتراجيديا امثال الالماني "غوستاف فرايتاغ"، الذي وضع مبنى هرميا عاما للتراجيديا اقامة على المسرحية وعرف باسمه "هرم فرايتاغ" نشره في كتابه المعروف حرفية الدراما.
من هنا اولا، أي مما تقدم تصبح مقاربة هذه المسرحية فنيا اليوم مقاربة صعبة لكثرة ما مثلت وباتجاهات ورؤى متعددة. ومن هنا ثانيا نحترم العمل المسرحي الذي شاهدناه مؤخرا على مسرح مركز محمود درويش الثقافي في الناصرة، من انتاج المسرح الوطني الفلسطيني ومن تمثيل طلاب مدرسة المسرح الصيفية، بعنوان: "على خطى هاملت". العمل من اخراج الفنان "كامل الباشا" واعتقد ان "كامل الباشا" كان يعرف مسبقا انه يراهن على اسمه وسمعته كمخرج في قبوله اخراج هذا العمل المسرحي، ذلك لأنه يعي انه في هذا العمل يتقحم عملا وعرا مليئا بالحصى وبالبثور. فمسرحية هاملت ليست مسرحية سهلة موضوعا وتنفيذا وقد مثلت مئات المرات كما اسلفت سابقا ومن زوايا ووجهات نظر متعددة، وعلى من يقربها اليوم ان يعرف من أي زاوية مغايرة عليه ان يتناولها، ذلك لأن الاخراج الصحيح هو كتابة ثانية للنص.
والسؤال الذي ينهض بعد هذا الكلام: هل نجح "كامل الباشا" في تقديم عمل مسرحي ناضج فنيا ومن زاوية مغايرة تنبثق من رؤية جديدة غير مسبوقة؟
الاجابة عن هذا السؤال تستلزمنا الوقوف على ما شاهدناه من العمل المسرحي لنجلو ابعاده ومراميه ونقاط قوته وضعفه.
بداية اقول: ان العمل الذي شاهدناه يكسر المبنى الفراتياغي المحكم وينتقي ما يناسب رؤية المخرج. فرؤية "كامل الباشا" مغايرة تماما لما جاء في النص الاصلي للمسرحية، الذي يتناول قصة امير دانماركي (هاملت) بحثه طيف والده المقتول على الثأر من عمه (كلاوديوس) الذي قتله وسرق تاجه وزوجته "جرترود" ام هاملت، الامر الذي جعل هاملت في صراع داخلي حاد وفي دوامة من التساؤلات والحيرة والالم والتشاؤم من الحياة حد الانتحار. فعملية قتل والده الذي كان يشكل له مثالا من جهة، وهرولة امه ولهاثها خلف عمه وزواجها المتسرع منه، من جهة اخرى، يدفعانه الى بيئة تخالف بيئة الحقيقية – العلم والثقافة والايمان، والحب الصادق والوفاء، ويزجانه في بيئة اخرى تقلب مسار حياته وتجعله بطلا تراجيديا. وكي يصل هاملت الى الحقيقة التي تعذبه يبتعد عن حبيبته "اوفيليا" ويفتعل الجنون ويدرب فرقة مسرحية على تقديم عمل يجسد ما قاله له طيف والده. وحين يتأكد من الحقيقة يصمم على القتل ولكنه خطأ يقتل الوزير "بولونيوس" والد حبيبته في مخدع امه ظانا انه الملك فتزداد هنا آلامه وصراعاته وازمته. ابتعاده عن "اوفيليا" وقتله لوالدها يدفعان بها الى الجنون ومن ثم الى الانتحار. . كما ان قتلة "لبولونيوس" وموت "اوفيليا" يدفعان "بلايريتس" ابن "بولونيوس" واخ "اوفيليا" الى طلب مبارزة هاملت لتصفية حساباته معه، فيستغل الملك ذلك ويتآمر مع "لايريتس" على قتل "هاملت" والتخلص منه بالسم. وتنتهي المسرحية بقتل "هاملت للايريتس" وبموت الملكة الام بالسم بدلا من ابنها خطأ، ويموت هاملت بسيف "لايريتس" المسموم وبمقتل الملك.
هذا هو ملخص القصة الاصل. فما الجديد الذي يقدمه "كامل الباشا"، بداية اقول ان كامل الباشا كي يصل الى هدفه ويؤكد على رؤيته المسرحية، كان مضطرا الى ان يلوي عنق المسرحية لتناسب تلك الرؤية. وذلك من خلال اقصائه لبعض المشاهد في المسرحية الاصل، كمشهد المؤامرة التي ينسجها الملك مع صديقي (هاملت) (جلدنشتيرن) و(روزنكرانتس) للتخلص من هاملت.
ثم مشهد المكتبة اللاذع السخرية والفلسفة بين هاملت وبولونيوس، الذي يعكس جنون هاملت المفتعل، ثم المؤامرة التي يحوكها الملك "كلاوديوس" مع "لايريتس" قبل المبارزة وغير ذلك من المشاهد المسرحية والمونولوجات، ولكن رغم هذا الاقصاء لمشاهد اعتقد انها كانت مهمة، الا ان المخرج استطاع ان يحافظ على روح المسرحية وجوهرها، وذلك من خلال التركيز على المونولوجات الهامة، وعلى بعض الاحداث الجوهرية في حبكة المسرحية، مستعيضا عن تلك المشاهد المقصاة باستمزاج عدد من العناصر المسرحية كالرقص والغناء والتعداد على الميت والصلوات الجنائزية وغير ذلك بحيث لم يشعر المتلقي بان شيئا ما ينقص العمل.
وللحقيقة اقول: ان المخرج حاول وبنجاح صبغ المسرحية بصبغة فلسطينية خاصة دون ان يمس جانبها الانساني الكبير، ودون ان يكرس عنصر القومية ويبرزه بشكل زاعق كما اعتدنا في مسرحيات فلسطينية اخرى. هذه الصبغة لاحظناها من خلال تطعيم اللغة المسرحية بلغة شعبية وبلهجة فلسطينية الامر الذي قرب العمل الى واقعنا، وكذلك من خلال اظهار شخصية الملك "كلاوديوس" كوجه آخر للاحتلال، وايضا من خلال تغيير النهاية التي تبقي على كلاوديوس مع انه في الاصل يقتل هاملت قبل ان يسلم الروح. الابقاء على كلاوديون اشارة ذكية من المخرج مفادها ان الشر باق في حياتنا طالما الاحتلال قائم، بمعنى اننا لن نستطيع اقتلاع الشر الا اذا قضينا على العدو الداخلي الكامل فينا وبيننا، وبعد ذلك نكرس الجهود الى القضاء على الخارجي.
ومن الامور الهامة التي لاحظناها في العمل والتي تعبر عن نضج رؤية المخرج تغيير النظرة الفلسفية التي تغذي المسرحية، فالنظرة الفلسفية في العمل الاصل تعكس ما كان سائدا في العصر الاليصاباتي، أي ابراز قوة الفرد واتاحة الفرصة امامه، والتحديات التي يواجهها وكيفية التغلب عليها. بينما في العمل الذي شاهدناه، رأينا نظرة مغايرة تكرس الجماعة لا الفرد، وقد برز ذلك من خلال اشتراك جميع الممثلين في الادوار، فدور هاملت لا تؤديه شخصية واحدة انما مجموعة وهكذا، وهذا تأكيد على ما ذكرناه. هذا بالاضافة الى ارتكاز المخرج كامل باشا وتوظيفه لتقنية مسرحية جديدة تستغل لاول مرة على ما اعتقد في مسرحنا الفلسطيني، اعني طريقة تدريب الممثل التي تعتمد على التقنية الايطالية المعاصرة "سكيرا" التي ابتكرها الفنان الايطالي "جابريئيل فايتش" والتي تعتمد على ثماني خطوات تبدأ بالقدم اليمنى، وبعد الخطوة الثامنة يستدير الممثلون في اتجاه آخر لثماني خطوات اخرى. هذه الطريقة البسيطة تظهر كل المقولات الفنية وتحولها الى لغة الجسد، وتدعو الى التركيز والوعي الجسدي والنفسي والانضباط، والفعل المسرحي، والبنية الحدثية فيه، والتحول من فعل الى آخر بسهولة، كما وتستدعي الروح الجماعية، وتكوين الايقاعات الصوتية والحركية، لقد نجح كامل في توظيف هذه التقنية والاعتماد عليها لأمرين: الاول، لأنها تؤكد على رؤيته اعني الجماعة بدلا من الفرد. وثانيا، لأن الحركة المستمرة تعكس نفسية هاملت القلقة المتعبة غير المستقرة المتصارعة داخليا والفوارة بين الفعل وعبثيته،وا لتي تغلي بين "ان اكون او لا اكون". كما ان هذه الطريقة لاءمت تحريف الصراع الاساس في المسرحية، من صراع بين العبث وضرورة الفعل في داخل هاملت، أي بين ان اقتل او لا اقتل، ان اصدق الطيف وهو وهم او اكذبه. بمعنى هل استمع الى صوت العقل ام الى صوت العاطفة؟ هذا الصراع الذي خلق شخصيته هاملت التي صارت نموذجا للتردد الانساني والتي توجد في كل واحد منا، هذا الصراع الاساس يحرفه كامل ليبرز صراعا آخر الى جانبه هو صراع الآباء والابناء مع التطرق الى ما يعانيه الجيل الشاب من اغتراب داخل مجتمعهم. ولقد برز هذا الصراع من خلال الحديث الجماعي الموجه الى كلاوديوس وجرترود، ومن خلال الوجود الدائم للطيف على المسرح، الطيف الذي يوحي بالضمير وبالشهادة الحية، وبالتذكير بالفعل وبعدم التردد، مع انه في المسرحية الاصل لا يظهر سوى مرتين: في بداية المسرحية ليحث هاملت على الانتقام، وفي وسطها، في مخدع الام ليذكر هاملت بمهمته. هذه الامور مجتمعة اضافة الى الديكور القاتم والملابس الداكنة الموشحة بالاحمر التي توحي جميعا بظلام النفسية وبالشك وبالدم داخل الشخصية والموسيقا الجنائزية التي تعبر عما يعتمل في دواخل الشخصيات والجهد الكبير الذي بذله الممثلون، كل ذلك ادى الى نجاح العمل والى ايصال الرسالة وتوضيح الرؤية التي يقدمها المخرج للعمل.
العمل بما فيه من طاقات فوارة وجهد مبذول وطريقة جديدة في التمثيل والاخراج والى السينوغرافيا العاكسة لما يجري في البراني والجواني، وكذلك الى الرؤية الفلسطينية والصراع كل هذه الامور متضافرة سوية جعلتنا نتابع العمل بتركيز وباهتمام بالغين.
وان كنا نشير الى عوامل النجاح يجب علينا ايضا ان ننتبه الى بعض نقاط الضعف التي تخللت العمل، اذكر منها الاخطاء اللغوية التي اضرت بجمالية ترجمة جبرا ابراهيم جبرا الفذة لهذا العمل. ومنها ايضا عدم اتقان مخارج الحروف عند بعض الممثلتين مما جعل المتلقي الذي لا يعرف النص الاصلي يستصعب فهم الكثير من العبارات ومنها كذلك مشهد حفاري القبور المبتسر الذي في رأيي لم يوظف في العمل كما يجب مع انه مشهد اساس فيه الكثير من التوريات الكلامية والفلسفة الحياتية الساخرة التي تهزنا من الاعماق. هذا المشهد كان ضروريا في المسرحية الاصل لأنه يروح قليلا عن المتلقي ويخفف عنه حدة التوتر والمأساة لذلك اطلقوا عليه مصطلح"ريليف" أي الترويح، واعتقد انه كان ضروريا ايضا في العمل الذي شاهدناه ليخفف من ايقاع المسرحية وينتشل المشاهد من وطأة التوتر ولكنه مر سريعا دون اثر وسرعته جعلته محايئاا للسطح لا للعمق فمنعنا من الانفعال به. هذا بالاضافة الى عدم التركيز على صراع الجيل الجديد بشكل مكثف خاصة قضية الاغتراب التي اراد لها المخرج ان تكون اساسا في المسرحية. وهي ثيمة في رأيي هامة خاصة في مجتمعنا، حيث يعيش الفرد وبالذات المثقف اغترابا مذهلا بين ما هو كائن وبين ما يطمح له ان يكون. كنت اتمنى ان تبرز هذه الثيمة اكثر لترسخ في المتلقي ولتثيره كي تفتح بالتالي كوة يطل من خلالها على ذاته وعلى ما يعانيه هذا الجيل. ولكن كل هذه الهنات مغفورة في هذا العمل لان الطاقم ليس طاقما محترفا من جهة ولأن العمل ليس عملا سهلا كما اسلفت في البداية من ثانية ولأن الطريقة التي اتبعت طريقة جديدة من ثالثة.
تحية للمسرح الوطني الفلسطيني وللقائمين عليه على هذا الاختيار الصعب والتحدي الكبير، وتحية كبيرة الى الممثلين والممثلات الشباب، وكذلك تحية احترام للفنان كامل الباشا الذي راهن على سمعته من خلال تقحمه لعمل مسرحي ملغم فيه الكثير من المغامرة لوعورته وصعوبة التعامل معه. لكن كامل الباشا رغم كل ما ذكر مع طاقمه استطاع ان ينقلنا الى عالم الشدهة لنتأمل في ذواتنا وفي مجتمعنا لنواجههما ولنعريهما. آملين لهم دوام النجاح والى امام، دائما الى امام.
* د. حبيب بولس – ناقد أدبي ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية .