التلفزيونات القاتلة
التلفزيونات القاتلة
محمد علي الأتاسي
دخل التلفزيون إلى العالم العربي في نهاية الخمسينات من القرن المنصرم وظل تحت هيمنة الإعلام الرسمي للحكومات، حتى ظهرت الأقنية الفضائية في بداية التسعينات، والتي دشنت ما يمكن تسميته مجازاً حقبة الفضائيات العربية.
لكن، رغم التأثير العميق لدخول الأقنية الفضائية في السياسة
والاجتماع والثقافة في البلدان العربية، فإن دراسة مدى هذا التأثير تظل غائبة عن
اهتمام معظم المفكرين العرب. فلا علماء السياسة أو الاجتماع
ولا المشتغلون
في الثقافة أو الفنون،
يأخذون على عاتقهم معاينة المدى العميق في التأثير الذي
تركه دخول التلفزيون
ليس فقط على حيوات الناس، وهم جزء منهم، بل وعلى حقول
تخصصهم وموضوعات بحثهم
المتنوعة. إن ما تبغيه هذه المقالة، ليس أكثر من
الإشارة إلى بعض هذه المسائل
التي يثيرها دخول البث الفضائي إلى العالم العربي.
.
لا تشذّ المجتمعات العربية عن بقية مجتمعات العالم لجهة
الدور الذي يضطلع
به التلفزيون في
التأثير في أنماط العيش وفي طريقة صنع السياسة
والثقافة وفي خلق
التمثلات والصور التي تملكها هذه المجتمعات عن نفسها وعن
الآخر. وإذا كان هناك
من حقيقة فاقعة يمكن الإشارة إليها في هذا المجال، فهي
أن الصورة
التلفزيونية أصبحت
الوسيلة الأكثر شيوعاً لمعرفة العالم، من فلسطين إلى
بغداد إلى نيويورك.
لكن أن نقول "الأكثر شيوعاً"، لا يعني أنها الوسيلة
الأكثر صدقية وقربا
من الواقع.
فالتلفزيون وبدلا من أن يكون مرآة هائلة لممارسة
الديموقراطية المباشرة
أصبح أداة لبسط الهيمنة والقمع الرمزي، بحسب تعبير عالم
الاجتماع الفرنسي بيار
بورديو. فهذه السلطة الإعلامية الجديدة تتركز في معظم
الأحيان في أيدي
الأقوياء، لكن دورها لا يسود من دون تواطؤ الضعفاء. فأحد
عوامل قوتها
الرئيسية يكمن في
كونها سلطة خفية تمارس نفوذها المنقطع النظير من دون أن
يعي هذا الجانب
التسلطي أولئك الذين يقعون تحت تأثير هذا النفوذ. فكم من
الأحداث السياسية تفسر
بشكل مغاير تماما لحقيقتها نتيجة التعاطي التلفزيوني
المنحاز معها.
وكم من
الغرائز البدائية ومشاعر الكراهية الجياشة تُستثمر بشكل
غير مسؤول من على منبر
الاستعراض التلفزيوني. وكم من مرة يمارس التلفزيون
التأثير على الرأي العام، بل
وحتى صناعته، لصالح تيارات سياسية في
عينها.
وإذا تتبعنا التغيرات العميقة التي أدخلها التلفزيون على
مختلف جوانب
الحياة، وجدنا أنه
بالكاد يخلو واحد منها من أثر الصورة التلفزيونية. فعلى سبيل
المثال
لا الحصر، يعزو الكثير من علماء السياسة في البلدان الغربية
ضمور البنى
التنظيمية للأحزاب السياسية إلى دخول التلفزيون الحلبة
السياسية واضطلاعه بدور
الوسيط الأول بين السياسي وجمهوره، ومساهمته الفاعلة في الحشد
والتعبئة. بل إن الكثير من السياسيين يلمع نجمهم الجماهيري بفضل تميز أدائهم
التلفزيوني، لا
بسبب حسن أدائهم السياسي! وإذا نظرنا إلى جهة الثقافة رأينا أن الكثير من
المثقفين، يستمدون شهرتهم ومكانتهم من حضورهم الدائم عبر
شاشات التلفزة، أكثر
بكثير من مساهمتهم الجدية في مجال الخلق الثقافي والأدبي. وإذا
نظرنا إلى الموسيقى
والأغنية فمن العسير أن ندرك التغيرات التي طرأت عليها في الآونة من دون أن نأخذ في
الاعتبار ظاهرة "الفيديو كليب". وهل يمكن الحديث عن تطور
الرياضة وأساليب اللعب في مجالاتها المختلفة من دون أن
ندرس ظاهرة الاحتراف وارتباطها العميق بحقوق البث المباشر من على شاشات التلفزة؟
يبقى أن
التلفزيون، بحسناته وسلبياته، ترافق منذ بداية ظهوره في الغرب
مع أبحاث ودراسات
حاولت تلمس مدى التأثير الذي يدخله على مختلف جوانب
الحياة. كما أن
العديد من وسائل
الإعلام البديلة والمغايرة لم تنفك تتناول بالنقد الظاهرة
التلفزيونية،
محاولةً تعرية آثارها السلبية والحد من تأثيرها وتعديل
موازينها.
فأهمية
الإعلام البديل والنقدي ليست في دفع الناس للتوقف عن مشاهدة
التلفزيون، بل في
تمكينهم من مشاهدته بنظرة نقدية بعيدا عن وضعية المتلقي
السلبي.
تبعية الفضائيات العربية
جاء ظهور الفضائيات العربية
ليتوج تبعية الإعلام العربي لأموال النفط، وذلك في
ظل غياب كامل لوسائل الإعلام
البديلة والنقدية والمستقلة. فالفضائيات العربية
لم تفعل شيئاً آخر سوى تأكيد
انحياز مركز الثقل الثقافي والسياسي لجهة دول
الخليج العربي. فالحقبة النفطية
توجت في الثقافة كما في الاجتماع, وفي السياسة
كما في الدين، ما يمكن تسميته
ثورة محافظة بكل معنى الكلمة. ثورة لم تُصب فقط
البنى الاقتصادية والسياسية،
لكنها أصابت بنى التفكير والتصورات التي يحملها
العرب عن أنفسهم وعن العالم.
ويكفي في هذا الإطار أن نتمعن في الطريقة التي جرى فيها
الترويج تلفزيونيا،
وبالتالي شعبيا، لنسخة محددة من الإسلام االعقائدي
المغلق بدءا من الشيخ محمد
متولي الشعراوي مرورا بالشيخ القرضاوي وصولا إلى
الداعية عمرو خالد.
لقد
أصبح في مستطاع الفضائيات العربية أن تقرر بالنيابة عن المواطن
التلفزيوني العربي
ما هي الأحداث التي يمكنها أن تدخل دائرة الضوء وتتحول إلى حدث عام، وما
هي التي يفترض لفلفتها وإدخالها سريعا دائرة النسيان. بل
إن أولويات الأجندة
السياسية والثقافية في العالم العربي باتت تحددها خيارات عمل
الفضائيات العربية
وآلياتها، والتي باتت تحدَّد من خلال قرار التغطية الإعلامية أو عدمه، ومن خلال
طريقة التغطية نفسها، ما المهم وما الأكثر أهمية! ما
المصيري وما الزائل! ما
الذي يدخل في دائرة المشكلات المجتمعية وما الذي يخرج عن
نطاقها! ولنا في"تلفزيون الواقع"
و"ستار أكاديمي" خير مثالين على كيفية اشتغال الآلة
التلفزيونية على مجتمعاتها.
لقد أصبح في إمكان مقدّمي برامج من أصحاب
الحد الأدنى من الثقافة والوعي، أن
يقرروا مَن من المثقفين والكتّاب والأدباء
والسياسيين وغيرهم من صنّاع الرأي
والفكر، يحق له أن يخاطب ملايين المشاهدين من
خلال برامجهم، وما الموضوعات التي
يجب التطرق إليها. لقد أصبحوا بفضل مواقعهم
داخل هذه الشبكة الإعلامية، ممتلكين
ليس فقط الشهرة والمنزلة، ولكن السلطة
والنفوذ اللذين قد لا يتناسبان البتة مع
مؤهلاتهم ومعارفهم. وإذا كان شائعا في
معظم بلدان العالم أن تتجاوز شهرة نجوم
التلفزيون ومقدمي برامجه، الشهرة التي
يتمتع بها كبار الأدباء والمفكرين، فإن
المصيبة في عالمنا العربي لا تكمن في
كون أحمد منصور أو فيصل القاسم أكثر شهرة
من نصر حامد أبو زيد أو إدوارد سعيد،
لكنها تكمن في أن البعض بات يعتبر مقدمي
البرامج هؤلاء، أكثر معرفة وعلما من
كبار المفكرين العرب.
ومن المؤسف أن نرى العديد من كبار المفكرين
والأدباء العرب، لا
يتوانى لحظة عن
قبول أي دعوة توجه إليه للمشاركة في برنامج تلفزيوني
وحتى إن كان الثمن مسخ
أفكاره من طريق إدخاله في حوار الطرشان وصراع الديوك
الهائجة حيث لا مكان
للمناظرة الفكرية الجادة. طبعا، هذا لا يعني أن مقاطعة
الظهور على التلفزيون هي
الحل الأمثل، ولكن من المعيب أن يرضى المفكر الظهور
كيفما كان، ومن دون أي شروط
مسبقة.
إن وتر الثقافة والفن والفكر
والسياسة بات مشدودا في العالم العربي بين قناتي
"روتانا" و"الجزيرة"، ومن دار
في فلكهما في هذه المروحة العريضة الممتدة من
الكبت الجنسي إلى الكبت السياسي.
بحيث أن لا شيء سوى الاستعراض ومستلزماته قادر
على تحريك هذا الوتر، في السياسة
كما في الثقافة، وفي الفن كما في الفكر.
وسنحاول في السطور اللاحقة أن نقدم
مثالا محددا للدرك الذي يمكن أن يودي إليه
هذا الاستعراض
المتلفز.
الدعوة إلى القتل
إن هيمنة الاستعراض على فلك
الفضائيات العربية، في ظل غياب أي ضوابط أخلاقية أو
مهنية أو قانونية، تدفع
بالعديد من مقدمي البرامج إلى اختيار أكثر الموضوعات
ظلامية، وإلى استضافة أكثر
الشخصيات افتقارا للصدقية وإثارة للجدل، ما داموا
كفيلين المضي بالاستعراض حتى
نهايته. أما النتيجة فتكون الدعوة المباشرة الى
القتل وإسالة الدماء البريئة
وتكفير العديد من الطوائف والمجموعات البشرية
بقضها وقضيضها. وإذا وضعنا جانبا
الحضور الدائم لابن لادن وأيمن الظواهري من
خلال البث المتكرر لأشرطتهما
المسجلة في نشرات الأخبار طمعا في السبق الصحافي،
فإن بعض الضيوف في البرامج
الحوارية يزيدونهم صراحة في الدعوة إلى القتل وإباحة
دماء الأبرياء. وكي لا
نبقى في مجال التعميم، يكفي أن نذكر مثال أبو حمزة
المصري الذي كان قبل اعتقاله
الأخير في بريطانيا بتهمة الإرهاب (يحمل الجنسية
البريطانية) الضيف الدائم على
البرامج الحوارية في قناة "الجزيرة"، وهو لم يتورع ولو
مرة واحدة في أن يدعو
صراحة إلى قتل الأبرياء. وقد استضيف في برنامج
"أكثر من رأي" (01\03\1999)
ليشرح فكرته الجهنمية والساذجة حول إرسال ألوف
الألغام الطائرة في الأجواء
الأوروبية لاستهداف الطائرات المدنية ومن عليها من
أبرياء تحت منطق "قتلانا في
الجنة وقتلاهم في النار". كذلك هي الحال مع أبو
قتادة (عمر محمود أبو عمر) الذي
استفاض أكثر من مرة على قناة "الجزيرة" في
تقديم الدلائل الشرعية لتبرير دعوته
إلى قتل نساء الرجال المنتسبين إلى الدرك
والجيش الجزائري وأطفالهم. حتى أنه
احتج مرة على مقدم برنامج "أكثر من رأي"
سامي حداد، لأنه سئل للمرة الرابعة عن
هذه الفتوى من على قناة "الجزيرة"، فما
كان من سامي حداد إلا أن ذكّره بضرورة
التكرار كون "المشاهدين لا يرون كل
برنامج، أنت هسه جاي قبل سنتين" (أكثر من
رأي 25\11\2001). وقبل فترة قصيرة ظهر
الداعية عمر بكري في البرنامج نفسه
متباهيا بتفجيرات مدريد ومثنياً على تفجير
مقر الصليب الأحمر في العراق
(12\03\2004).
إن العبرة من إيراد هذه الأمثلة الملموسة، وغيرها كثير
على الأقنية
الفضائية العربية،
للتدليل على الدرك الذي وصل إليه الاستعراض
التلفزيوني العربي، بحيث
أن التحريض على القتل يعتبر في معظم دول العالم جريمة
يعاقب عليها القانون، في
حين أنه سبب رئيسي ليحتل مكان الصدارة على الشاشة
أشخاص موتورون يتوجهون إلى
ملايين المشاهدين بخطاب القتل والدم، فضلاً عن
التحريض على الكراهية وشيطنة
الآخر وتكفير الملل والنحل والأقليات. وإذا كان
هؤلاء الأشخاص يجدون في بعض
الأحيان من خلال الإعلام الغربي نافذة صغيرة يطلون
منها على المشاهدين، فإن هذه
الإطلالة غالبا ما تأتي في إطار تغذية مشاعر
العداء للعرب والمسلمين لدى
الجمهور الغربي بتقديم أبشع النماذج الإسلاموية
ظلاميةً وتخلفا، وأكثرها توافقا
مع الأفكار المسبقة التي يحملها البعض عن العرب
والمسلمين. لكن مع ذلك، فإن
الإعلام الغربي يقع مباشرة تحت طائلة العقوبات
القانونية إذا هو أفسح المجال لأصوات تدعو الى الكراهية
وتحرض على القتل بين
مكونات النسيج المجتمعي في الدول
الغربية.
أما في بلداننا فإن خطاب
الكراهية والعنف، المتملص من أي رقابة قانونية أو
مهنية في الفضائيات العربية،
لا يتوقف عند حدود معاداة الغرب وشيطنته، بل يجنح
أكثر فأكثر إلى تغذية مشاعر
العداء والكراهية وسوء الفهم بين مكونات المجتمعات
العربية، الطائفية منها
والإثنية والسياسية.
حيال هذا الواقع المزري، فإن أضعف الإيمان أن يخفف
مثقفونا وإعلاميونا من أثقال
الرقابة الذاتية التي يمارسها كل منهم على نفسه،
وأن يمارسوا بدلا منها النذر
القليل من الرقابة والنقد باسم أخلاقية المهنة
وقيم الاستقلالية والنزاهة. عسى
يشكل ذلك رادعا رمزيا يصون ما تبقى من شرف
المهنة وينبه المشاهد إلى ضرورة
التحلي بالنظرة النقدية ويمنع استباحة
المجتمعات العربية بهذا السيل الجارف من
الصور المحملة أكثر القيم تخلفا
وظلامية