هذه النهضة الفنيّة

عبد الله الطنطاوي

هذه النهضة الفنيّة

عبد الله الطنطاوي

[email protected]

لسنا ضدَّ الفنّ، ولكننا ضدّ السقوط، وكلّ ما يؤول بنا كأمة وشعب وحضارة إلى السقوط، وما نشهده من (نهضة) فنية متصاعدة في هذه الأيام، نذير شؤم لهذه الأمة (العربية) وعملية رصد جادّة لما تذيعه إذاعاتنا (العربية) المسموعة والمرئية، ولأشرطة الكاسيت والفيديو والأقراص المضغوطة ناهيك عما يجري في دور اللهو والفسق والفجور، فهذي لا نستطيع أن نعرف ما يجري فيها، لاعتبارات لا تخفى على أحد، وإن كانت الصحافة قد زارتها وكتبت لنا عن مخازيها.. نقول: عملية رصد جادّة أو سريعة لما يذاع في أجهزة البث الرسمية، والفضائيات تجعل المرء في حالة ذهول، فهي تأكل أوقات الناس، وتحرق أعصاب الشباب، وتفسد عقولهم وقلوبهم، وتهبط بعواطفهم، فتتردّى معها مشاعرهم وأحاسيسهم واهتماماتهم، وهذا كله، مؤشّر كبير للسقوط الوشيك في هوّة سحيقة، من الصعب أن تنتشل الأمة نفسها منها إلا بعد زمن قد يطول ويطول ويطول..

والذي يجلس أمام شاشة التلفزيون، ليشاهد حفلة من تلك الحفلات الفنية، ويرى الآلاف المؤلفة من الشبان والشابات، وهم يرقصون على الأنغام الهابطة، والكلمات البذيئة، والأصوات المنكرة، يأسى للحال البئيسة التي آلت إليها أمتنا، ويعرف سبب الانتكاسات التي مُنيت بها خلال القرن الذي انصرم، ولا يملك إلا أن يتّهم المخطِّطين –بفتح الطاء الأولى وكسرها- الذين يعبثون بمقدرات هذه الأمة، لينتهوا بها إلى المصائر التي هي فيها، حيث الأرض محتلَّة، والديون ساحقة، والركوع لغير الواحد الأحد.. لليهود والأمريكان ولدعاة الصهيونية والرهبان..

وهؤلاء المخطِّطون من اليهود وممن يأتمر بأمر ذهبهم ونسائهم، قد وعوا تاريخ الأمم والحضارات، وعرفوا أنّ السوس الذي ينخر في أجسادها، حتى يسقطها، إنما هو سوس (الفن) الهابط الذي جرّ علينا الويلات منذ بداية القرن المنصرم، كما جرّ الكوارث على حضارتي الإغريق والرومان، ولن أذكر غير (نكسة) حزيران، وشمس بدران، وثلّة الزعران من ضباط المخابرات والطيران، والحفل الساهر الذي أحيته راقصة الشرق سهير، وعلى توقيعات رقصاتها، كانت تدمّر المطارات المصرية، وفي ساعات أقلّ من ساعات رقصها، أنهى اليهود (أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط) وحرموا العرب الطروبين، من حفلة غنائية لكوكب الشرق، في تل أبيب..

كنت أتساءل في نفسي: ترى هل بقي شيء يخطّط له اليهود وعملاؤهم من وراء هذه النهضة الفنية، بعد الانتكاسات والهزائم المتتالية؟ ثم تبّين لي أنّ (أفراحاً) تنتظرنا في (البيت الأسود) وأنّ الراقصين على الجراح.. الراقصين على دماء الشهداء والمعذّبين والمشّردين وعلى أشلائهم، يستعدّون لحفلات جديدة في غزة وأريحا، وفي الحرم الإبراهيمي، وفي رحاب الأقصى الأسير، وفوق الصخرة وقبّتها وفي جنين ونابلس والخليل ...إنهم يهيّئون مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، من ألوان (الأفراح) التي سيحييها المقنّعون والمقنّعات من دواعر اليهود، الذين جاؤونا من كل مكان، لا يُعرف لهم أصل ولا فصل.. مطربون ومطربات، يخدمون الجاسوسية العالمية الصهيونية، أكثر بكثير مما يخدمها سواهم من العملاء المكشوفين والمستورين.