غزة تنهض من كبوتها
عبد الكريم عليان
عضو صالون القلم الفلسطيني
[email protected]
بعدما انتهت الحرب على غزة والتي لم تنتهي تماما.. تفاجأ المجتمع الغزي من حجم
الغضب والانفعال الذي أختزن في وجدان الغزيين بعامة، والمثقفين بشكل خاص! الذي ثار
فجأة كالبركان المتدفق ليملأ الساحة الثقافية ميلادا جديدا لا يمكن القفز عنه
بسهولة خاصة للجمهور المتابع للحركة الثقافية والتي يجب أن تكون العنوان الرئيسي
للحركة السياسية وقادتها الذين يعملون بعيدا عن هذا المؤشر المهم، ولعل هذا يؤكد ما
ذهب إليه المشتغلون في علم الاجتماع عن حساسية مفرطة بين المثقف والسياسي خاصة في
المجتمعات العربية، ومجتمعات العالم الثالث... وتجدر الإشارة إلى ضعف وسائل الإعلام
التي تتبارى في التقاط الأحداث الساخنة، وتحيد بشكل مقصود أو غير مقصود عن كل
الأحداث الإنسانية والثقافية التي تنتج أو تقوم يوميا في غزة المحاصرة... وكما
يذكرنا التاريخ بحصار لينينجراد عندما حاصرتها مدافع الألمان سنة 1944 مدة 900 يوما
تحت طقس شديد البرودة ووفاة ما يقارب 800 ألف من الروس جراء الحصار النازي.. إلا أن
أكثر ما كان يغيظ الألمان هو الأوبرا التي كانت تصدح تحت دوي المدافع.. بالطبع سجل
التاريخ الذي كان فقيرا حينها لوسائل الإعلام الحالية مفخرة للإنسان وصموده
الأسطوري.. لكن هل ستسجل غزة بصمودها الذي يوازي في ذلك حصار لينينجراد مع فارق
الزمن الذي نعيشه بكل أدواته المختلفة عن ذلك الزمن..؟ غسان بن جدو مذيع ومقدم
برامج مشهور في قناة الجزيرة الإعلامية قد فشل في توصيل رسالة إعلامية لأنه أغفل
الجوانب الإنسانية التي يعاني منها المجتمع الغزي جراء الحصار والعدوان الشرس،
واقتصر برنامجه الذي بث في أكثر من حلقة على حياة المقاتلين وخاصة عناصر من حماس
والجهاد..
ما أن انتهى العدوان على غزة حتى فاجأنا الفنان التشكيلي فايز السرساوي بمعرضه
النحتي "ميلاد مدينة" هي مدينته التي خرجت للتو من الركام بمنحوتاته الجديدة، والتي
كان للعدوان أثر بارز في تفاصيلها، كما عكست أحلام الفنان ومعاناته الشديدة مع
أسرته زمن الحرب.. ما كاد للمعرض أن ينتهي حتى باغتتنا الأديبة مي نايف رئيسة صالون
نون الأدبي بندوة أدبية قدم فيها الدكتور حماد أبو شاويش من جامعة الأقصى دراسة عن
صورة المرأة في أعمال الأديب غريب عسقلاني وتخللت الندوة قراءات شعرية جديدة لعدد
من الشاعرات الحديثات مما كان للندوة نكهة مميزة.. في يوم المرأة العالمي حيث
احتشدت النساء من كل أنحاء غزة أمام باحات المجلس التشريعي الذي دمرته الطائرات،
وبدلا من أن يتلقين الورود والابتسامات في هذا اليوم كانت هتافاتهن تنطلق إلى عنان
السماء يطالبن بالوحدة وانتهاء الاحتلال وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة ولم يفتن
مطالبتهن بالمساواة مع الشريك حيث يشاركنه ويقتسمن معه السراء والضراء.. وهناك في
نفس الظهيرة افتتح في المركز الثقافي الفرنسي معرضا فنيا لسبعة من الفنانات
الناشئات اللواتي عبرن عن آلامهن وأحلامهن بالألوان في صور فنية جميلة تؤثر في
النفس الإنسانية لتبقى حية تؤرخ لشعبنا مدى الدهر.. يستمر هذا الزخم الفني المتدفق
ليبهرنا الفنان التشكيلي إياد صباح صاحب تمثال العنقاء المنتصب في ساحة الشهداء وسط
مدينة غزة بمعرضه المعنون "ظلال حمراء" في المركز الفرنسي أيضا، وجمع المعرض بين
منحوتات ولوحات فنية كما لو كانت قصائد شعرية غنية باللغة والبلاغة لها رنين وصدى
موسيقيين لتثير في نفس المشاهد فرحا وحزنا معا.. أما على خشبة مسرح المسحال الثقافي
عرض المخرج الشاب عصام شاهين مسرحية بعنوان "بكفي تمثيل..!" تميزت المسرحية بطاقة
هائلة لحركة الممثلين الشباب وأداء لا يشوبه أي خلل يذكر بما يتلاءم وفكرة المسرحية
التي جمعت بين الهزل والعبث في حالة من السريالية للمجتمع الغزي الذي يعاني قسوة
العيش من لقمة الحياة إلى أزمة الكهرباء والوقود إلى التناحر السياسي والكذب إلى
الأزمات الانفعالية والعاطفية التي يمر بها شبابنا بأسئلة مفتوحة للمشاهد عله يجد
إجابتها في عنوان المسرحية بكفي تمثيل..؟
بالطبع هناك العديد من القصائد الشعرية والقصص والأعمال الأدبية التي كتبت في
الحرب، منها ما نشر ومنها ما لم ينشر.. كلها تنتظر الباحثين والمنشغلين بالعمل
الثقافي كي يقدموها لنا بشكل يؤرخ لمرحلة سطر فيها شعبنا آيات للخلود والعزة..! ومن
لا يدرك هذه القيمة التي تميز بها شعبنا مدى التاريخ عليه أن يتذكر ما ورثنا إياه
آباؤنا وأجدادنا من تراث مادي ومعنوي هائل انشغل به الباحثون ومازالوا.. إن
المعاناة عندما تتحول إلى فنون راقية تعوض عن أصحابها قسوة الحياة؛ لا شك أنها أسمى
صور الإنسانية والحضارية وشعب بهذه الروح لا بد أن ينتصر كما انتصر الروس وشعب
لينينجراد، وكذلك مات نيرون ولم تمت روما وستبقى غزة وسيموت كل ظلامها وستسقط كل
المؤامرات المحاكة ضدها..