من (باب الحارة) إلى (نور)
تناقضات لا تنتهي!
سهاد عكيلة
عندما شُغِل العالم العربي على مدى سنتين بمسلسل (باب الحارة) الذي جسّد حِقبة من تاريخ الأمة المعاصر تميّزت بعلوّ منسوب المبادئ في المجتمع، رغم ما فيه من عادات وتقاليد جاهلية، ومغالطات فكرية، وأخطاء شرعية... قلنا: هذا مؤشر لاشتياق الأمة للعودة إلى الفطرة السليمة.
غير أنّ هذا العالم هو هو مَن فُتِن بمسلسل (نور) التركي المدبلج، بما فيه من قِيَم وتقاليد غربية تضادّ الفطرة؛ مما جعلنا نقف مشدوهين من حجم التناقض الذي تعيشه الأمة!!
تذكر المصادر الصحفية أنه في الوقت الذي يُعرَض فيه المسلسل تتوقف الحركة في معظم البيوت العربية، ويتسمّر أفرادها أمام شاشات التلفاز!! كما تشير إلى أن هذا المسلسل كان سبباً في وقوع حالات عدة من الطلاق في مجتمعاتنا العربية! لماذا؟ لأن نساءنا مفتونات ببطل المسلسل (مهنّد)، فهذه أعطت زوجها فرصة أسبوع حتى يصبح مثل (مهند) أو يطلِّقها، فما كان من الزوج إلا أن منحها ما طلبت وطلقها، وتلك استبدلت بصورة زوجها صورة ذاك الممثل... وثالثة تمنّت أن تتحقّق لها فيه أمنيّة - يربأ القلم عن ذكرها - ثم تموت بعدها! وكثيرات أضفن صورته إلى جوّالاتهن!!! أربع حالات طلاق في حلب، واحدة في الأردنّ، وأخرى في البحرين... هَوَسٌ عجيب بهذا المسلسل، لدرجة أن أيّ صحيفة تكتب عن أبطاله وتنشر أخبارهم ترتفع نسبة مبيعاتها أضعافاً!
تَعلُّق الناس بمسلسل (باب الحارة) كان سببه افتقادهم لمبادئ كانت تزيّن الحياة الاجتماعية، أما في مسلسل (نور) فلعل النساء يفتقدن مشاعر إنسانية كانت تزيّن الحياة الزوجية: العاطفة... عجيب! ألهذه الدرجة تعاني الأمة من فجوات قِيمية كبرى احتاجت لسدّها عبر التخدير الشعوري المؤقّت؟ وعن طريق الانحدار الأخلاقي؟
ذكـرت صــحيـفة (الشـعـب) الجزائرية أن مهنداً من أكبر نجوم مجلات إباحية تروِّج للمثلية الجنسية (عمل قوم لوط)!! هذا هو فارس أحلام المراهقات والنساء (المتزوجات منهنّ وغير المتزوجات)... هذا هو بطلكنّ أيتها المفتونات!
في الواقع نحن نعيش أزمة أخلاقية افتُقِدت معها قِيَم إنسانية كانت مصدر استقرار المجتمع الإسلامي ومصدر سعادة الأُسَر فيه! فمتى كانت المرأة المسلمة تنظر إلى غير زوجها نظرة فيها شبهة؟ ومتى تمنت أن تكون لغير زوجها أصلاً؟ وهل حلمت الفتاة المسلمة يوماً أن يكون لها زوجٌ من أشباه الرجال؟! فأين قيمة العِفة: السِّمة الأبرز في المنتسبات إلى الإسلام؟ أم إنّها أصبحت "موضة" قديمة و"عملة" غير قابلة للتداول؟
لقد عُني الإسلام بتحقيق مقوِّمات العفة في المجتمع الإسلامي من خلال قانون الوقاية على قاعدة تحريم كل ما يؤدي إلى ارتكاب الفاحشة بَدءاً من النظر: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ✽ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (النّور: 30 - 31). فماذا فعل المسلمون بهذا القانون التربوي الربّاني؟ تحلّقوا حول الفضائيات وأطلقوا البصر، فوقعت حالات الطلاق نتيجة إعجاب فلان بهذه الفنانة أو تلك المطربة وبالتالي فقدوا القناعة بزوجاتهم، والآن جاء دور النساء، كأنهن يقلن: هذه بتلك!! يقول [ فيما رواه عنه أبو هريرة: «عِفّوا عن نساء الناس تَعِفَّ نساؤكم» رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد.
وفي ذلك أنشد الإمام الشافعي قائلاً:
عِفّوا تَعِفَّ نساؤكم في المَحْرَمِِ
وتجنَّبـوا مـا لا يَليقُ بمسلـمِ
إذاً، الرجل والمرأة كلاهما مسؤول عن هذه الانتكاسة الأخلاقية وعن غياب قِيَم العفة والعفاف في النظر، والفكر، واللسان، والقلب، والسلوك... عن مجتمعاتنا.
الرجل من موقع مسؤوليته فَهِم القِوامة بشكلٍ خاطئ ولم يُعطِها حقّها في الممارسة، بل إن بعض الرجال قد تنحَّوْا عن هذه المهمة وأوكلوها للزوجات!
والرجل سمح لزوجته ولابنته ولأخته... أن تخرج على الرجال شبه عارية...
والرجل لم يحفظ حرمة نساء غيره فأطلق بصره، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير...
وبعض الرجال يتاجر بأعراض النساء لتزيد أرصدته في البنوك، في وسائل الإعلام وفي الملاهي والمراقص...
وهو هو مَن لم يحفظ حرمة بيته وعقول وقلوب نسائه وأبنائه فسمح لنفسه ولهم أن يستقبلوا تلك السموم الآتية من الفضائيات عبر الأثير، بل هو مَن يجلس معهم لمتابعة مشاهد العُري والخلاعة وقصص الحبِّ والغرام... دون حياء أو ورع!
فلماذا يثور الآن إن أُعجبتْ زوجتُه بالفنان والممثل والمغني... أو تغنّت بصفات هذا أو ذاك، أو تمنّت أن يكون زوجها نسخة عن (مهنّد) أو غيره؟!!
والمرأة دورها لا يقلّ خطورة:
فهي التي تعرض جسدها وتُغوي الرجال وتُطمِعهم بها...
وهي التي تُهمِل نفسها في بيتها وأمام زوجها، فإن خرجت ارتدت كامل زينتها وتعطّرت لتُدير أعناق الرجال!
وهي التي أهملت تربية أبنائها وبناتها على قِيَم العفّة والفضيلة، فقدّمت للمجتمع عناصر غير محصّنة، بل مساهِمة فيما وصلنا إليه!
وهي التي... وهي التي...
كلاهما مسؤول عن حجم الانحطاط الذي وصل إليه المجتمع! وكلاهما منفِّذ – بقصدٍ أو بغير قصد – لما يخطَّط لهذه الأمة من إفساد أبنائها فلا يكونون أهلاً لإعادة مجد الإسلام الذي يخافون.
ولا يكون الخروج من هذا النفق إلا باتباع المنهج الإسلامي في حفظ المجتمع:
قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} (النور: 33).
وقَال حِكايةً على لسان العفيف نبيّ الله يوسُف عليه وعلى نبيِّنا الصلاة والسلام: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} (يوسف: 33)، ومعلومٌ إلامَ دُعيَ عليه السلام؛ دعته امرأة العزيز لارتكاب الفاحشة فعفّ، مع سهولة الوصول إليها.
وأرشد [ الشباب - الذين لا يملكون مؤنة الزواج - إلى الصَّوم: لماذا يا رسول الله؟ لأنه (وِجاء) أي وقاية، فقال [: (يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغَضّ للبصر وأحصَن للفَرْج، ومَن لم يستطع فعليه بالصَّوم فإنه له وِجاء) رواه البخاري.
ونحن أمام فرصة عظيمة: رمضان، هذه الدورة التدريبية التي يُمضي فيها الصائم شهراً كاملاً في أجواء التربية الأخلاقية والروحية والسلوكية، فلا يخرج منه إلا وقد روّض نفسه على الطاعات وعفّ عن الاستكثار من مباح الشهوات فضلاً عن ارتكاب المحرّمات.
أعاننا الله فيه على الصيام والقيام وعلى غضِّ البصر وحِفظ الفكر والقلب واللسان، وتقبّل منا جميعاً صالح أعمالنا، وأعتق رقابنا، آمين.