تباريح الشجن الساكن فينا ليل نهار

سليمان عبد الله حمد

[email protected]

كثيرون من شعراء بلادي تغنوا للوطن السودان منذ عهد الاستعمار وحتى نال السودان استقلاله. فجاءت قصائدهم قوية ومعبرة لأنها نابعة من حبهم الفطري للسودان دون اعتبارات أو انتماءات سياسية، فخلدت قصائدهم على مر الأزمان وتغنى بها كبار الفنانين، ونذكر منهم على سبيل المثال الشاعر خضر حمد شاعر القصيدة المشهورة «إلى العلا» ومحمود أبوبكر «صه يا كنار» وشاعرنا الذي رحل مؤخراً محمد عثمان عبد الرحيم «أنا سوداني» وعلي نور شاعر المؤتمر والهادي العمرابي والتيجاني يوسف بشير وسيف الدين الدسوقي، وكان الغرض من تلك الأغنيات شحذ الهمم واستنفار الطاقات نحو حب الوطن السودان، وبالمقابل هنالك شعراء تغنوا لأحداث سياسية بعينها كثورة مايو التي كان لها نصيب الأسد من القصائد والأغنيات وثورة أكتوبر. ولكن يظل الغناء للوطن هو الأبقى في ذاكرة الشعب السوداني..

«نجوع» طرحت عدداً من التساؤلات عن الوطنية في السودان وعدم وجود الجديد من القصائد الوطنية؟ هل هو انعدم الحس الوطني؟ ماذا عن النص الأدبي الوطني فى مناهجنا الدراسية؟وهل من يكتب للوطن ينتظر مقابلاً؟

افتتح لنا شرفة الحديث الشاعر الكبير السر دوليب قائلاً:

كل من يمسك قلمه ليكتب عن الوطن هو صادق في تناول أحاسيسه، فأي كلم كتب عن الوطن حقيقي فيجب أن لا نظلم شعراء الوطن والوطنية ولا استطيع أن أذكر اسماً دون الآخر، ولكن الشاعر «حسين بازرعة»خير مثال للشعراء الذين كتبوا للوطن. ولكن على الكُتّاب والصحافيين العمل على البحث والتنقيب ومن ثمّ التوثيق لشعراء الوطنية في بلادنا. فالارتباط يكاد ينعدم بين الجيل الحالي والأجيال القديمة، فغالبي الشباب مشغولون بالتقنيات الحديثة. والسودان متفوق في كتاباته للوطن والوطنية منذ عهد أغاني الحقيبة والشعر الغنائي الذي لم يخل من الرمزية للوطن ، والحس الوطني ما زال موجوداً فقط يحتاج لتسليط الضوء عليه..

أهو ده السودان:

الأستاذ الصحافي والكاتب والأديب والشاعر سعد الدين إبراهيم قال في حديثه لنا:

هنالك الكثير من الأغنيات الخالدة التي كُتبت للوطن والوطنية مثل «عزة في هواك ويا وطني العزيز» وآخر الأغنيات «عزيزٌ أنت يا وطني» التي تغنى بها الفنان مجذوب أونسة فهل توقفت الأغنية للوطن في هذه المحطة؟ فالحس الوطني يكاد يكون معدوماً في الأجيال الجديدة لأن أجهزة الإعلام درجت عل عدم الاهتمام بالأغنية الوطنية. فمثلاً أنا كتبت«أهو ده السودان» ومع أنها قصيد مشهورة الا أنها لم تجد التقييم الكافي، هذه الأغنية كتبتها على أساس بثها وغنائها في المناسبات الوطنية «كالانتصارات الكروية والجوائز الخارجية» كنوع من التربية الوطنية ولكن مع الأسف عنوان القصيدة«أهو ده السودان» أصبح يستخدم كعبارة للاستهتار و«التريقة» على الوطن السودان ومما يجري فيه، وغالبية الناس لا يعرفون أني من نظمت تلك القصيدة، وفي المقابل نجد أن الأغنية الهابطة تجد لها رواجاً ويعرف كاتبها وملحنها ومغنيها. في فترة من الفترات السابقة حُرّم بث الغناء عبر أجهزة الإعلام فاختفت الأغنية الرصينة وهاجر معظم الفنانين واتيحت الفرصة لأغنيات «الهشك بشك» التي تربى عليها الجيل الحالي لأنه لم يجد سواها أمامه، وبعد عقد من الزمان عاد الغناء الى الساحة وأصبحت تقام له مهرجانات وقامت منظمة«أروقة» بتنظيم مهرجان للأغنية الوطنية ولكن جاءت موسيقاه معقدة.
وأنا كشاعر لدي الكثير والكثير من الأغنيات الوطنية لكنها حبيسة الأدراج لأنني لم أجد التقييم الكافي عندما كتبت من قبل للوطن، فلو وجد الشعراء الجدد التكريم والتقييم لتشجعوا على الكتابة عن الوطن. وتلعب الظروف الاقتصادية والسياسية الراهنة دورا كبيراً في ضعف وانعدام الكتابة للوطن، فالمواطن بدأ في تقديم استقالته من السودان! وأنت حينما تتجرد من وطنك لا تغير عليه ولا تتغنى له. فقديماً كان للشعراء حس وطني ملتهب. واختتم حديثي هذا بثلاثة محاور أولها: يجب التوثيق للشعراء القدامى، فالأجيال الجديدة خاوية فكريا من هذه الناحية، ثانياً: التربية الوطنية في الأسر والمدارس وعدم التحدث أمام الأطفال وعدم توجيه الانتقاد والتذمر من الوطن بعبارة «ملعون أبوك يا بلد». فالوطن ليس ملكاً لحكومة أو نظام سياسي. وهنالك شيء أود أن أشير إليه فمؤتمرات الصلح تعقد خارج الوطن كنوع من عدم الثقة في الوطن. ثالثاً: يجب تشجيع الغناء الوطني وتكريم الشعراء الذين تغنوا للوطن كدفعة معنوية.

غناء من أجل المال

الناقد والباحث الدكتور أمير النور أفادنا قائلاً:
قبل إعلان الاستقلال بيوم واحد اتصل مجلس السيادة بالفنان أحمد المصطفى والموسيقار علاء الدين وكان حينها رئيس الأوركسترا بفرقة الاذاعة، اتصلوا عليهم من أجل تقديم عمل بمناسبة الاستقلال فجاءت أغنية«لي غرام وأماني في سموك ومجدك عشت يا سوداني» فاستجابوا بالحس الوطني وتم إعداد هذا العمل بسرعة فائقة بدون اي مقابل مادي. كذلك كتب محمد عوض الكريم القرشي الشهير بود القرشي «وطن الجدود» لعثمان الشفيع وكتب حسين بازرعة «نفدّيك بالروح يا موطني» لعثمان حسين وتغنى عبد الحميد يوسف من كلمات كامل السيد «أنا حبيت السودان» وتغنت عائشة الفلاتية «السودان وطني الكبير» وكتب السر قدور «أرض الخير» وتغنى بها إبراهيم الكاشف، ورمضان حسن «الجمال والحب في بلادي» وكتب موسى حسن «جدودنا زمان» التي تغنى بها الثنائي ميرغني المأمون وأحمد حسن جمعه، وتغنى حسن عطية من كلمات عثمان منصور «هُبي يا سعاد» وإبراهيم عوض تغنى لعبد الرحمن الريح «أعزّ مكان وطني السودان». كل هؤلاء جادت قريحتهم بالكتابة والغناء للوطن السودان.

فالشعراء والرواد القدامى كتبوا للسودان بحس وطني بعيداً عن العائد المادي واذكر أنه في مهرجان ميلاد الأغنيات قدما «90» أغنية وطنية ونال منها «30» جائزة مالية ولكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن أين تلك الأغنيات؟ واعتقد أنها كُتبت وقدمت من أجل العائد المادي لذا لم يكتب لها الاستمرارية والنجاح. لأن أيه أغنية تكتب للوطن تظل خالدة وراسخة كأغاني الرواد. والأغنيات التي تكتب من أجل الوطن تعيش وتخلد ودونك كمية الأغنيات التي كُتبت في نظام مايو أين هي الآن؟

ونحن الآن نعاني من ضعف الكتابة للوطن ويرجع ذلك للحالة الاقتصادية والسياسية وهجرة العقول فالناس تحتاج لتربية وطنية منذ مرحلة الاساس. فأجهزة الإعلام المسموعة والمرئية ما زالت تجتر في القديم من الأغنيات واذكر ان آخر أغنية قدمت للوطن وكانت قوية بالفعل هي أغنية «عزيزٌ أنت ياوطني».
الشاعر والفنان والملحن عمر حسن محمود الشهير بعمر كوستي كان له رأي مغاير حيث قال: في مهرجان ميلاد الأغنيات مع السموأل خلف الله في العام 2009م قُدمت «90» أغنية وطنية وبعد التصفية صارت «30» أغنية وما زالت تلك الأغنيات موجودة ولكنها مظلومة إعلامياً!!
«
عزيز أنت يا وطني» أغنية قديمة
كان لابد لنا من ان نلتقى بالفنان مجذوب أونسه صاحب أغنية «عزيز أنت يا وطني» والتي أجمع الكثيرون على أنها كانت آخر الأغنيات الوطنية القوية والمؤثرة، ولكن الفنان أونسه أكدّ أن تلك الأغنية تغنى بها منذ الثمانينات وسُجلت للاذاعة والتلفزيون وهي من كلمات شقيقه حسين أونسه وألحاني ولكنها لم تدخل دائرة الضوء إلا مؤخرا، وحين كتبها الشاعر لم يكن لديه هدف سياسي ولكنها خاطبت وجدان الشعب السوداني، ولكنني لم أكن أوليها اهتماماً لأنني كنت وما زلت مشغولاً بالغناء العاطفي الذي أجد نفسي فيه ولكن هذا لا يمنع من انه يجب أن يكون لأي فنان رصيد من الأغنيات للوطن فكلنا مفعم بحب الوطن السودان.
عودة التربية الوطنية للمدارس
الأستاذ عمر أحمد صديق من الرواد في مجال التعليم استاذ ومربى أجيال التقينا به ليحدثنا عن دور التربية الوطنية في بناء وطنية الفرد والتشجييع على الكتابة للوطن، حدثنا قائلاً: نعاني من انعدام الوطنية ويعز ذلك لعدم وجود المنهج، فالشعراء القدامى حتى ولو لم يدرسوا تربية وطنية لكنهم تربوا في ظل الحركات الوطنية حتى تشبعوا بحب الوطن، ولكن الجيل الحالي لم يجد حركات وطنية كما كان قديما ولم يجدوا كتبا تؤرخ لذلك وحتى إن وجدت لا يجد الشباب الوقت للاطلاع عليها لانشغالهم بالتكنلوجيا الحديثة وربما الظروف الاقتصادية الطاحنة تقف وراء ذلك

ليتنا نحمل راية حب الوطن على الرغم من تباريح الشجن الساكن فينا ليل نهار لنجعله حبا يتدفق عبر الزمان والمكان ...