عتيق صاحب مدرسة متفردة

الشاعر محمد بشير عتيق الشاعر المخضرم صاحب المفردات الآسرة والأسلوب الشعري السهل الممتنع الشاعر الرومانسي المرهف الممسك بتلابيب المفردة تأسرك كلماته الجميلة تغنى التي تغنى بها الفنانون جيلا بعد جيل، وتعامل مع عدد كبير من فناني الحقيبة على رأسهم كروان السودان كرومة في عدد من الأعمال الخالدة منها: أيام صفانا، ونعاس الأجفان، ومن أول نظرة وكذلك مع خضر بشير الأوصفوك وغيرها، ومع عبد الحميد يوسف ورمضان حسن وترباس. وعتيق مدرسة متفردة يتميز بالمواكبة وله لونية أقرب للموشحات، وقد مثل عتيق في السودان في ليبيا وحينها قال أحدهم إذا كان هذا هو شعركم الشعبي فلا فرق بينه وبين الشعر الفصيح، وأن دولة الشعر قد انتقلت إلى السودان.

«الإنتباهة» حاولت من خلال هذا الموضوع أن توثق للشاعر المميز عتيق من خلال لقائها بأسرته واستطلاع بعض معاصريه والنقاد الفنيين لمعرفة الكثير عن حياته وشعره. فتفضلوا معنا:

سيرته الذاتية

عن سيرته الذاتية جلسنا إلى أسرة الشاعر عتيق للحديث عنه سيرته ومسيرته الحافلة، فالتقينا بابنه الأكبر كامل بشير عتيق، وقال لـ «الإنتباهة» ولد محمد بشير عتيق في حي أبو روف بمدينة أم درمان سنة 1909م، وكان والده معلما للغة العربية والقرآن الكريم وأنزلته أشغال عمله مدينة الدويم التي نقل للعمل بمدرستها الابتدائية، وإلى هناك صحبه ابنه محمد وكان في الخامسة من عمره كان يذهب إلى المدرسة مع أبيه مستمعاً إذ لم يكن بالإمكان قبوله بصفة رسمية فهو وقتها لم يبلغ السن التي تسمح له بانخراطه في صفوف تلاميذها ومن بين زملائه في الفصل الدراسي محمد أحمد محجوب وأحمد بشير العبادي، أما في مدرسة الكوة التي بقي فيها عاما واحدا كان من ضمن تلاميذ المدرسة في ذلك الوقت البروفيسور التجاني الماحي والنصري حمزة وغيرهما، ولما كان والده من المهتمين بالأدب العربى بكل ضروبه كان منزله قبلة لأدباء المدينة من الذين جاءوا إلى مدينة الدويم للعمل في مكاتب ومصالح الحكومة، وكان عتيق هو الابن الوحيد في المنزل ومن ثم كان يقوم بخدمة ضيوف والده وأكثرهم كان من الشعراء والأدباء، وتربى على القراءة والاطلاع مما كانت تزخر به مكتبة والده من كتب الأدب والسيرة النبوية. وبعد أن توفي والده في عشرينات القرن الماضي عاد مع والدته لمدينة أم درمان ثم بعد ذلك التحق بمدرسة الصناعة في عطبرة وهي مدرسة تابعة لمصلحة السكة حديد وتخرج منها بقسم البرادة عام 1930م وعمل بمصلحة السكة حديد إلى أن تقاعد عام 1963م، وفي تلك الفترة تولدت عند عتيق موهبته الشعرية حيث كان يحفظ الكثير من الشعر العربي وقد حفظ أكثر من 20 ألف بيت شعر وهناك نظم أول قصيدة وهي أغنية «يا أماني جار بي زماني» عام 1924م، وتغنى بها الفنان النعيم منأابناء أبوعشر وبعد تخرجه من تلك المدرسة عاد إلى مدينة أم درمان والتقى بعدد من الشعراء والفنانين وقد عرض ما كتبه على الشاعر عمر البنا وأعجب بما كتبه وذهب به الى منزل الشاعر أبو صلاح وكذلك أعجب به أبو صلاح وشجعه على الاستمرار فى كتابة الشعر. ويواصل كامل عتيق حديثه عن والده ويقول ينحدر الوالد من قبيلة الدولايب التى عرفت بانها قبيلة دينية وتنقل من خلال عمله ما بين كسلا وبورتسودان ومدنى والقضارف وقد كتب قصائده كذلك في المدن التى تنقل فيها.

صفات عتيق

ويواصل كامل حديثه عن والده ويقول كان يهتم بصلة الأرحام والأصدقاء وقبل وفاته ذهب الى زيارة صديق له في بورتسودان وكان عمره وقتها 82 عاما والوالد عليه رحمة الله سريع البديهة ويحب النكتة وهو رجل دبلوماسي في إجابته ومستمع جيد للأغنيات وعن عتيق الأب يقول إنه معتدل فى تربيته وربى ابناءه تربية دينية والاسرة الصغيرة تتكون من اربعة من الأبناء بنتان وولدان توفى اثنان إلى رحمة مولاهما. وعن أول راتب تقاضاه من قصائده قال كامل كان من الاستاذ محمد ميرغني في قصيدته أرجوك يا نسيم وكان المبلغ 200ج، وقد كتب أغنية الزوجة المثالية فى الوالدة زينب علي ناصر وكان مواظبا على قراءة القرآن الكريم وعن الأوقات التى يكتب فيها يقول كامل ليس له وقت معين واحيانا يأتي الى البيت وهو يحفظ قصيدته ويقوم بتفريغها وعن أصدقائه من الشعراء يقول علي محمود التنقاري وعبد الرحمن الريح الذي صاغ له لحن أغنية في رونق الصبح البديع

وعن ملهمة عتيق في بعض قصائده سكت كامل قليلاً وقال منهم منى محمود التي كانت تعمل بقسم اللغة الروسية جامعة الخرطوم وكانت في لجنة تحكيم برنامج فرسان في الميدان والوالد واحد من مؤسسي اتحاد شعراء الأغنية وعضو في لجنة النصوص بالاذاعة وتوفي الوالد في عام 1992م في شهر مايو ويصادف هذا العام ذكرى وفاته الـ 22 في السادس عشر من مايو. وكان عتيق معجبا أشد الإعجاب بصوت كرومة وقد تعامل معه فى أغنيات كثيرة وكذلك تعامل مع خضر بشير.

أغنيات عتيق

تعامل عتيق مع عدد من الفنانين على رأسهم كرومة الذى تعامل معه فى أكثر من خمس وعشرين اغنية اشهرها يا ناعس الأجفان التى كتبها فى بورتسودان عام 1936م واغنية اذكرى أيام صفانا وأغنية هل تدري يا نعسان عام 1943م وأغنية أرجوك يا نسيم روح ليه واغنية ما بنسى ليلة كنا تايهين في سمر وأغنية كل ما اتأملت حسنك يا رشيق القى آية وأغنية من اول نظرة وجميع الأغانى التي تغنى كرومة بها قام بصياغة الألحان لها كرومة بنفسه عدا أغنية ليلة ويا لها من ليلة التى صاغ لحنها عبد الرحمن الريح وكذلك اغنية فى رونق الصبح البديع عام 1942م وكذلك تغنى عثمان حسين له وأولاد شمبات وأولاد الموردة وعبد الحميد يوسف فى العديد من الأغنيات ورمضان حسن اغنية الأمان الأمان وغيرها، وكذلك خضر بشير فى أغنيات عديدة منها الأوصفوك وأغنية كنت معاه هسة وبابكر حمد ومحمود عبد الكريم وكمال ترباس أغنية الفطن الوسيم وغيرهم.

له لونية أقرب للموشحات

الدكتور عمر قدور رئيس الاتحاد القومى للأدباء والكتاب السودانيين ونائب رئيس الاتحاد العالمى لكتاب آسيا وإفربقيا ومساعد الأمين العام للاتحاد العام للادباء والكتاب العرب تحدث لـ «الإنتباهة» عن عتيق وقال تلقى عتيق قدرا من التعليم فى وقت لم يتح فيه إلا لقلة من الجيل الاول على رأسهم خليل فرح ومصطفى بطران وغيرهما وهؤلاء تلقوا قدرا من التعليم النظامي، ويتميز عتيق بلونية خاصة أقرب للموشحات فشعره فيه تنويع فى القافية وايضا ربما فى بحور الشعر، فهو مجدد وشعره يمتاز بالتنويع فنظمه فى العفاف والقيم وإظهار محاسن المرأة الحسية والادبية وشعره جمع بين جيلين «شاعر مخضرم» فهو قارئ للشعر ومثقف وصديق للكتاب وقد استضفته في برنامج «شاعر وفنان» بالتلفزيون القومي.

تتلمذ عتيق على يد عمر البنا الأستاذ محمد حسن الجقر الباحث فى أغنيات الترات وموثق اغنيات الحقيبة أمدنا بديوان عتيق «أيام صفانا» الذي بحثنا عنه فى معظم المكتبات ووجدناه قد نفد فمدنا به مشكورا ومعه كتابه القصص الحبيبة فى أغاني الحقيب، وقال:

انقسم شعراء الحقيبة الى فريقين: فريق به العبادي وسرور «عميد الاغنية السودانية» وعبيد عبد الرحمن وسيد عبد العزيز، والفريق الآخر كان به الشاعر ابو صلاح وعمر البنا وكرومة وصاحب الذكرى عتيق، وكل فريق يعمل قصيدة يتصدى له الفريق الآخر بقصيدة أقوى منها، وقد تتلمذ عتيق على يد الشاعر الكبير عمر البنا وأبو صلاح وكان يفتخر بذلك وهم بمثابة ذراعه الأيمن. وعتيق بموهبته وملكته أصبح «الحوار الغلب الفكي»، وقد تناول عتيق في شعره الطبيعة بحكم جغرافية منزله بأبي روف فالنيل كان خلفه وقد نظم شعره فى عدة مناطق، وقد تغنى عتيق للوطن وللجيش والمزارعين والصناع. فأغنيات عتيق مواكبة والشاعر عمر البنا وكرومة وعتيق شكلوا مثلثاً خطراً جداً وقد شكل عتيق مع كرومة ثنائية مميزة.

كان كرومة يلحن الأغنية في يومها وفي كتابه القصص الحبيبة لاغاني الحقيبة يقول الجقر عن أغنية هل تدري يا نعسان إنها نظمت فى إحدى حسان العباسية الحي الأم درماني الشهير وقد سكن عتيق بعيداً عن هذا الحي لكنه لم ينقطع عن زيارته والتردد إليه وقال «ليلي ونهاري أنا لي حيك بهاجر» تغنى بها الحاج محمد أحمد سرور وتغنى بها بعده الفنان حسن عطية وما زالت الأغنية تعتبر من أكثر أغانى الحقيبة ديمومة، هل تدري يا نعسان أنا طرفي ساهر جسمى اضمحل بغرامك وانت زاهر. وكذلك اغنية ما بنسى ليلة كنا تايهين فى سمر بين الزهور أنا وانت والنيل والقمر. ومن الأشياء الطريفة التى ذكرها الجقر عن عتيق قال انه أرسل قصيدة إلى كرومة وكان وقتها فى القضارف وفتح كرومة الرسالة التى بها قصيدة وبدأ يقرأ فيها وهى ملحنة وعندما سأله الآخرون قالوا له أرسلك الأغنية ملحنة، وقد كان كرومة يلحن القصيدة فى يوم واحد يستلمها من الشاعر وربما يشهد اليوم الواحد مولد قصيدتين أو ثلاثة. وتعامل عتيق مع رمضان حسن وخضر بشير وعثمان حسين وترباس وغيرهم.

وقد ناظر عتيق الشاعر خليل فرح الأب الروحى للاغنية الوطنية في قصيدته في الضواحي وطرف المدائن وجاراه بي أغنية في الضواحى وطرف القضارف وكانت في عام 1931م

صاحب مدرسة متفردة

الأديب الشاعر والإعلامي الشامل عمر بشير في حديثه لـ «الإنتباهة» ابتدر حديثه وقال تعرفت عليه فى نهاية السبعينات فى ندوة اتحاد الشعراء بنادى الخريجين وقد توثقت علاقتي به أكثر وعتيق مدرسة شعرية متفردة فهو شاعر مصور ولديه سرعة بديهة وهو شاعر مسكون بالنيل، وفى أشعاره نزعة إيمانية أقرب لود الرضي من أمهر الشعراء فى التأمل فى ملكوت الله فنجد ذلك فى أغنية فى رونق الصبح البديع، وكتب عتيق فى المراثي فقد رثا ود الرضى وقد مثل السودان فى ليبيا عندما ذهب مع الشاعر مبارك المغربي وقد رفضت مشاركته بحجة ان تتم المشاركة بالفصحى فرفض مبارك المغربي ذلك وتمسك بمشاركة عتيق وعندما شارك وحضره القذافي وقد كتب قصيدة في ليبيا أصبح يقول له القذافي أعد يا شيخ. وقال قصيدة عن جبل مرة فكان ردهم أنه اذا كان هذا هو شعركم الشعبى فلا فرق بينه والفصيح وأن دولة الشعر قد انتقلت الى السودان. وعتيق رجل مثقف نشأ فى كنف أسرة ادبية ومكتبته ملأى بالكتب وعتيق امتداد لمرحلته وسجل حضوراً لمرحلة وكانت روحه شبابية وكان يسافر الى مصر وعندما كلفته الإعلامية ثريا بإعداد فوازير رمضان كتابة شعر لها قابل أحمد رامي ووجده في مرجحانية في حديقته، ورحب بعتيق وقال له انت الكتبتا أغنية أهوى القمر والنيل واهوى الأزهار، عندك زي حديقتي دي، وقال له أنا أسكن في بيت كاكي بمعنى بيت جالوص، وقد سجل لثورة رجب بقصيدته ثورة رجب شفنا العجب. الحديث طويل وذو شجون وكثير عن عتيق لا تتسع هذه السانحة لذكره.

وسوم: العدد 626