الطير المهاجر ...
اللقاء الأول بالشاعر صلاح أحمد إبراهيم .. لم يلتق وردي بالشاعر صلاح أحمد إبراهيم في الواقع ولكن الصدفة وحدها جمعت بينهم في أول عمل، فلم يطل العام 1964م إلا وكان ميلاد أخر علامات وردي الفارقة في مسيرته الرائدة بشهادته واعتراف كل معجبيه كانت الطير المهاجر الضلع الثالث بعد " مرحباً يا شوق" والحبيب العائد ولكن ليس للإبداع نهاية وليس لوردي حدود في السمو بالناس إلى مراقي الإبداع السامية وليثبت لنا وردي ذلك حتى في أعماله اللاحقة، نعود للطير المهاجر التي برع فيها الشاعر صلاح أحمد إبراهيم وقد كان حينها ملحقاً بسفارة السودان في غانا ذلك البلد الكائن بغرب إفريقيا قبالة المحيط الأطلسي وصلاح الشاعر يهده الشوق للوطن لأم درمان حيث الميلاد والحبيبة والأهل فيرسل تحاياه ويبث أشواقه عبر الطيور المرتحلة شمالاً ويحملها أشواقه وحنينه للنيل والنخيل والحبيبة والوطن، فيلتقط وردي هذه الحزمة من الأشواق قصيدة منشورة في مجلة هنا أم درمان "الإذاعة والتلفزيون لاحقاً" أثناء عودته من مدينة كوستي بصحبة العازف أحمد محمد خليل" بريس" رست الباخرة في استراحة قصيرة عبر شط الدويم فنزل وردي عله يؤنس نفسه في رحلته تلك بشيء من القراءة فاشترى مجلة هنا أم درمان فوقعت عيناه على تلك القصيدة التي انفعل بها ، شيئاً ما في القصيدة جعله يمسك مزماره ويدندن بلحن الطير المهاجر، ربما ذكرته بأهله المرتحلين من حلفا الوطن إلى ثلاثة خيارات أحلاها مر كالعلقم، وربما ذكر النيل والنخيل والحبيب فهذه المفردات في أية قصيدة ألا وفعلت في دواخل وردي. الطير المهاجر لوحة فنية مكتوبة بيراع مبدع فأضاف لها وردي خطوطاً لحنية عميقة تحكي عن روعة اللوحة ورقة ألوانها، وبوصول الباخرة لمرساها الأخير الخرطوم كان وردي قد وضع آخر ظلال اللوحة الفنية " للطير المهاجر" ولم يبق إلا توقيع لمساتها النهائية مع الفرقة الموسيقية ووضعها في الإطار، في تلك الأثناء كان " للطير المهاجر" واقع آخر فقد حمل الأغنية الأديب على المك والموسيقار بشير عباس نص الأغنية للفنان عثمان حسين وعلى المك تربطه علاقة مودة بصلاح أحمد إبراهيم وعثمان حسين وكذلك بشير عباس، ولكن العازف عبد الله عربي تصدى مؤكداً جمال اللحن الذي أضافه وردي للقصيدة واتفقوا كحل وسط على إقامة جلسة استماع للأغنية من وردي وقد أعجب على المك وبشير عباس بلحن الاأنية أيما إعجاب ويذكر أن بشير عباس قد ساهم مساهمة ملموسة في تسجيل الطير المهاجر وعزفه المميز ظاهر في هذا التسجيل ويحكي الأستاذ على المك لاحقاً إنه كان جالساً بين يدي الحلاق في أم درمان ويستمع إلى الراديو الذي كان يذيع حفلاً مباشراً من المسرح القومي والفنان وردي يترنم بالطير المهاجر لأول مرة بموسيقى تأخذ بالألباب ولما وصل وردي للمقطع تلقى فيها النيل بيلمع في الظلام – زي سيف مجوهر بالنجوم من غير نظام أخذ على المك يتمايل بنشوة في كرسي الحلاق فطلب منه الحلاق أن يثبت راسه حتى يتمكن من حلاقته قال له علي المك صائحاً: (طيب أمسكوا مني الحلفاوي ده" كلمات الأغنية لا تغازل الحبيبة بعينها بل تغازل الوطن من ذاكرة إبن له مغترب مضمون جديد اتفق حوله حتى الخصوم الفكريين لصلاح ومنهم عبد الخالق محجوب الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني الذي قام معلقاً على الطير المهاجر هكذا تكون الأغنية السودانية.
أغنية الطير المهاجر تكاد تكون من أجمل أغاني محمد وردي تحكي بكل صدق عن عبقرية وردي الفذة في الموسيقى فربما يذهب بك الخيال الجامح بأن وردي ممسك بمزماره في طرف قصي من تلك الباخرة التي تتهادى في عباب النيل الأبيض وضوء النجيمات البعيدة ترسل مدى من السحر الذي يوالف بين أنغام وردي وكلمات صلاح أحمد إبراهيم على أجنحة طيوره المرتحلة من غابات غانا وشواطئ الأطلسي إلى النيل الحبيب سليل الفراديس ولكن تلك الطيور المرتحلة لم تكن لها أية علاقة برحيل أبناء حلفا الذين أغرقتهم مياه السد العالي ولكن ربما أوحي ذلك لأهالي حلفا عزاءً في ترك ديارهم.
التيار
وسوم: 641