سالت على خدي دمعة....
جلست وحيداً في مكتبي الكائن بمركز الدهناء في قلب العاصمة السعودية الرياض، في شارع الإحساء الذي يشهد حركة سير مزدحمة طوال اليوم، ومع ذلك شعرت بنوع من الوحشة والغربة وكأني لم آلف هذا المكان من قبل، فسرت في دواخلي موجة من الذكريات والشجون حتى سالت على خدي دمعة حرى زادتني حزناً وشجناً. وفجأة بدأت تحتشد في خاطري صور لأحداث وشخصيات رحلت عن دنيانا ولم يخلفوا لنا سوى الذكرى العطرة؛ فقد كانوا قوماً كرام السجايا حيثما ذكروا يبقى المكان على ذكرهم عطراً. ومما زاد اشجاني ذكريات ندية عن عيد الأضحى ونحن يومئذ في ميعة الصبا وريعان الشباب بين أهل لا يعرفون إلا المودة والتقدير وتبادل الاحترام والتواصل دون رياء أو مداهنة؛ بل كان ذلك طبعهم وسجيتهم وديدنهم. حاولت أن أطرد تلك الأفكار الحزينة عن خاطري ولكنها ألحت علي وأصرت على البقاء في دواخلي، فلم أشعر إلا يدي تمتد خلسة إلى لوحة المفاتيح لتسعفني بقول أبي الطيب المتنبي وهو يومئذ بعيداً عن حلب الشهباء التي خرج منها مغاضباً بعد أن فرق الوشاة بينه وبين ممدوحه سيف الدولة الحمداني فوضع عصا الترحال شريداً في قاهرة المعز حيث قلبت له الأيام ظهر المجن، فأنشد يقول:
عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهم فليت دونك بيداً دونها بيد
لولا العلى لم تجب بي ما أجوب بها وجناء حرف ولا جرداء قيدود
ومع أننا هنا في ديار الغربة بمحض إرادتنا إلا أنّ لنا دياراً إذا حننا إليها فحنين الغريب للترحال أو كما تحن إلى الأبل للمعاطن. وتجربة الغربة مهما كانت دوافعها ومبرراتها لها طعم كالحنظل في بعض الأحيان! جلست والذكريات تزدحم في مخيلتي بلا توقف كأنها سيل جارف لا يلوي ولا يتوقف بل يسير دون حواجز فخيّل ألي أنني استمع لعمنا الفكي مهدي ود اللازم بصوته الجهوري الشجي يرتل آيات الذكر الحكيم وهو يومئذ يؤم الناس في صلاة العيد! ليس هذا فحسب بل رأيت الفكي الأمين ود شبو ممسكاً بعصاته المعروفة ذات القرنين وقد أبكى الحضور بقراءة قصة الذبيح إسماعيل عليه السلام؛ فيجهش حاج التجاني بالبكاء حتى تبتل لحيته بالدموع! ثم بعد أداء الصلاة يتعانق الجميع وهم يلبسون تلك الثياب البيض والعمائم البيضاء وقد جاءوا من كل القرى المجاورة فهذا الفكي يوسف يترجل عن دابته وقد وصل للتو من سونقا، وهذا عمنا جمعة ود الخليفة ومعه شباب الفولة قد وصلوا يحملون الفرح في وجوههم الباسمة دوماً. وها قد جاء ناس أم حامد يتقدمهم على ود آدم ود مخلوف وحسن ود حسين ومعهم جمع غفير من الأهل. ومن المقران يصل جدي علي ود بابكر والفكي عثمان وأعمامنا محمد وعمر أولاد عمر ود جاد الرب، ولفيف من الشباب. ومن بعد ذلك ينصرف الجمع إلى تناول الإفطار في تلك الشجرة "العلقة" وبعدها تبدأ الأفراح الشعبية فإذا بالخيل والجمال تقلب وتنطلق الزغاريد من البيوت كافة. وينطلق مهرجان فعلي يشارك فيه الكبار والصغار والرجال والنساء بكل عفوية وبهجة وتفاعل. وبعد ذلك ينداح الجميع في القرية يباركون العيد ويقبلون الدعوات و"المعروض" حتى لا يبقى بيت إلا دخلوه من أقصى الحلة إلى أقصاها فيصلون الرحم مبتهجين بكل ما تحمل الكلمة من معنى فيكون للعيد معنى حقيقياً. وعند منتصف النهار يلتقي الجميع في ظل تلك الشجرة التي كانت في وسط القرية " شمال من بيت أم حسين بت فرج الله" وتأتي نسوة الحي بكل عفوية ويبدأ حفل الجراري حتى قبيل غروب الشمس فينفض السامر بعد أن عبر عن فرحته وسروره. وكنا في صبحية اليوم الثاني من أيام التشريق نشد الرحال إلى إخوتنا في القرى المجاورة ونبدأ بعمنا التجاني ود يوسف في دميرة التوم ونصل حتى أم عيدان وحلة الفكي ثم نعرج على الزرايب والحمرة والفولة والمقران وتمتد رحلتنا حتى نصل أم حامد وحلة عيال التام وربما العاديك. من جانب آخر كان كبار السن من عيال الفكي الناير وغيرهم من أمثال جدنا محمد شلاّع والفكي الأمين وعمر كريدم والجزولي ود عبد الله وشاتوت وعيال أبو شناح وحاج عيسى يأتون إلى الوالد في دميرة بتلك الهيئة والهيبة التي لا تخطئها العين فيجلسون معه طوال اليوم ويرد لهم الزيارة في ثالث أيام العيد. كان ذلك الحراك يمثل تواصلاً أخوياً راقياً وصلة رحم؛ ولذلك كانت البركات تتنزل على الناس من السماء غيثاً مباركاً فيخضر الزرع ويمتلأ الضرع وتحل البركة في كل شيء. ولكن في كل عام ترذلون؛ فقد تبدلت الحال وذهب الرجال الذين أشرنا إليهم وخلف من بعدهم خلف لم يعودوا مؤتلفين كأسلافهم بل قطّعوا أرحامهم وتفرقت بهم السبل وشغلتهم الأطماع فهل إلى عودة إلى ذلك الماضي من سبيل؟ اللهم أجمع شملنا ووحد كلمتنا وأجعلنا جميعاً من المتحابين فيك.
محمد التجاني عمر قش