صبري مدلل آخر عمالقة الطرب في سوريا
من لم يعرف صبري مدلّل آن الآوان ليعرفه، ومن عرفه وسمع صوته، قد تكون هذه المقالة فرصة لمعرفته أكثر؛ الأمكنة والزّوايا الّتي رافقت هذه الهامّة العربيّة الحلبيّة.
كان الشّيخ صاحب الصّوت المتغلغل في حجارة بيوت حلب، مرجعًا للفنّانين والسّمّيعة الّذين عايشوه، وظلّ أسطورة لأجيال موسيقيّة صاعدة، إلّا أنّه بقي بعيدًا عن 'النّجوميّة' الإعلاميّة والتّجاريّة الاستهلاكيّة الّتي تغمر عالمنا العربيّ. حين تتعرف إلى صوته وتدرك شخصيّته، تبدأ بمتابعة عروضه ولقاءاته وجولاته. على مدار واحد وخمسين عامًا كان مدلّل يتنقّل بين البيوت، والمراكز، ومساجد المدينة الّتي عمل فيها مؤذّنًا، ليضيف صبغة ثقافيّة موسيقيّة متميّزة، تبدأ جولاته من بيته في حيّ الجلوم، أو دكّانه الّذي كان يبيعه فيه صابون الغار الحلبيّ، ثمّ يعود إليهما.
وُلِدَ صبري مدلّل في حلب عام 1918، وكان له دور في إدخال الإيقاعات والآلات الموسيقيّة للأستوديو حديث العهد. كانت ثقافته الأولى مع الشّيخ أحمد المصري الّذي اكتشف إمكانيّاته الصّوتيّة خلال تردّد مدلّل على حلقات المساجد. كما كان تأثّره كبيرًا من علاّمة الموسيقى الكبير، عمر البطش، وذلك في ثلاثينات القرن الماضي، وقد استدعاه البطش للعمل معه مردّدًا في إذاعة حلب. وقد استفاد أيضًا من الفنّان بكري الكرديّ، الّذي أعطاه ألحانًا عدّة، منها لحن 'ابعتلي جواب'، الّذي أشهره، وقد غنّياه بعده كلّ من محمّد خيري وصباح فخري.
التّجربة المركزيّة الأخرى في حياة مدلّل، لقاؤه بمطرب ومنشد المدائح النّبويّة، الأستاذ فؤاد خانطوماني عام 1954؛ وفي هذا اللّقاء وُلِدَتْ فكرة تأسيس فرقة إنشاد دينيّ، تخصّصت في تقديم الأناشيد والتّواشيح الدّينيّة. ليبدأ انتشارها بعد ذلك في العالم العربيّ، . كما شهدت الفرقة أيضًا انطلاقة أوروبيّة كانت بتقديم العرض الأوّل في باريس، وقد سجّل الباحث الموسيقيّ الفرنسيّ، كريستيان بوخة، أسطوانة في حينه تحت عنوان 'مؤذّنو حلب'.
يتناول فيلم 'حلب... مقامات المسرّة'، للمخرّج السّوريّ محمّد ملص، سيرة الشّيخ صبري مدلّل، ويُعَدُّ الفيلم أحد المصادر المهمّة للتّعرّف إلى هذا العلم الثّقافيّ، كما يمثّل إطلالة مهمّة على دهاليز وأحجار حلب الّتي تنتج المطربين الكبار، ويبيّن العلاقة الوثيقة بين البيئة والولادة الموسيقيّة.
ويعرف عن نفسه بالفيلم: 'أنا صبري مدلّل، المنشد الحلبيّ ومُدْخِلُ السّرور إلى قلوب النّاس.'
لم تنكسر شخصيّة مدلّل وطاقته بسبب 'عدم الشّهرة'، إذ انحصرت في سوريا، وفي حلب بخاصّة، وقد اكتشف كثيرون عظمة صوته وألحانه في مرحلة متأخّرة فقط. لم ينكسر وظلّ يبدع وينتج دون توقّف.
أنّ الأذان والتّجويد القرآنيّ كان لهما دور مهمّ في صقل صوت صبري مدلّل منذ طفولته؛ وقد استمرّ في أداء الأذان ما يقارب السّبعين عامًا، علمًا أنّ لصوت مدلّل إمكانيّات تجعله قادرًا على منافسة أعظم المطربين.
غنّى صبري مدلّل وفرقته، بالإضافة إلى التّواشيح والأذكار، العديد من أعمال القصبجي، وسيّد درويش، وزكريّا أحمد، وغيرهم من كبار الملحّنين؛ وقد كان يؤدّي ذلك بأسلوبه الحلبيّ المميّز أداءً ولفظًا.
امتاز صبري مدلّل بطول النّفس، فحنجرته المتشرّبة للأبجديّة العربيّة والتّراث الصّوفيّ، أتقنت بشكل مدهش الانتقال بين الطّبقات والمقامات بليونة، دون أن يحدث تقطّع في غير مكانه..
رحل الفنان الكبير صبرى مدلل / 1918 - 2006 /، بعد مرض عضال ألم به، وأقعده في منزله بمدينة حلب.
وسوم: العدد 715