القبانجي في ذكراه الخامسة والعشرين
حسين إسماعيل الأعظمي
اعزائي القراء والمشاهدين
في ذكرى مرور ربع قرن على وفاة رمزنا المقامي وسيد غناء المقام العراقي على مدى عصوره محمد القبانجي (1901 – 1989م) الذي وافاه الاجل يوم 2/4/1989 .. وفي هذه المناسبة اعيد عليكم المقالة التي كتبتها في ذكرى وفاته الرابعة ونشرتها جريدة الجمهورية زمنذاك ، آملا ان تروق لكم قراءتها ومشاهدة ممتعة لحلقتي برنامج المقام العراقي 27 و 28 الموجود رابطاها ادناه ، اللتين تتحدثان عن القبانجي وطريقته الـــفذة مع الشكر والتقدير لكم ودمتم لاخيكم حسين الاعظمي ..
***********
محمد عبد الرزاق القبانجي ( 1901 – 1989 ) *
كان القبانجي الذي ترأس حملة التجديد في طرق الاداء المقامية منذ العقود الاولى من القرن العشرين ، قد شنت عليه حملات نقدية شعواء بين معارض ومؤيد ، بحيث احتدم الجدل في تلك الحقبة من الزمن ، ولاتزال اثارها باقية عند المحافظين القدماء والاجيال الحالية ، وصار النقاد والصحفيون والكتاب والمهتمون بشؤون المقام العراقي يتبادلون عجالات جدلية متحمسة … تسقط طريقة القبانجي … تحيا طريقة القبانجي .. ولم يقفل باب المناقشة لهذا السبب ، بل سيستمر او سيعاود الموجودون الان الهجوم في الوقت الحاضر وحتى في المستقبل بين من مازال يعارض وبين مؤيديها الكثيرين بسبب التطور المستمر الحاصل لوسائل الانتشار والتعليم الموسيقي .. فالأداء المقامي والمكونات النغمية الموجودة في البناء اللحني للمقام العراقي الموروثة عن القرون الكثيرة الماضية ، توحي بانطباع من التماسك بحيث نشعر بقدم الاصالة التأريخية وما يحويه من تراكمات حضارية عريقة . وكذلك نشعر بصعوبة مواءمته كشكل ومضمون للواقع المعيش ، وهي حاجة طبيعية لاختلاف روح العصر لكل جيل من الاجيال ، والمغني الذي يريد حث المستمع على الالتزام وتنبيه شعوره الى شكل العصر الذي يعيش فيه ، انما يسبغ على هذه المشاكل معنى اعتباطياً ..!! كل شيء اذاً في المقام التقليدي تمويه ، ومن الواجب اعادة التفكير في طبيعة طرق ادائه ، ويبدو ان هذه المشاحنات التي دارت حول المقامات وطرق ادائها ، ادت بصورة خاصة الى نتيجة معينة ، هي المحاولات الجدية الى تجديد الطرق الادائية لغناء المقام العراقي بعمق ، والتي بدأت بشكل بسيط حتى تعمقت وتبلورت عند القبانجي ، فقد اعقبت اثار القبانجي التي غدت نموذجاً لغناء المقام العراقي المعد او المصنوع ، مقامات مصنوعة او معدة اعدادا تقنيا جديدا شملت كل مقاماته ، حتى التي استحدثها بابداع فذ ، مثل مقام اللامي والحجاز كار كرد والحجاز كار والقطر وغيرها ..
صورة / محمد القبانجي
ان القابلية الفذة التي يمتلكها استاذنا الراحل محمد القبانجي في عملية الانتقال من نغم الى نغم ومن سلم الى سلم ، وادراكه العجيب بتماسك هذه العلاقات ، ومن ثم صياغتها بشكل انسيابي مريح ، مما ساعد على خلق حال لا يستطيع فيه المستمع بل حتى احيانا المتخصص ان يفهم تفصيلات المحتوى الموسيقي والغنائي الفني لادائه … وهو في حاله هذا ، ينطلق من هذه الامكانية والمعرفة التجريبية بالانغام والسلالم الموسيقية وعملية التنوع والتجول بها وربطها مع بعضها بشكل جميل فذ ، بيد انه في نفس الوقت لا يترك المستمع تائها وحده ، فهو يرتبط معه بمحاكاة تعبيرية تجعل الصلة بينه والمستمع وثيقة جدا .. تغني عن الغموض الفني الموسيقي الذي قد يشعر به المستمع اثناء سماعه للقبانجي ..!! لذا فان القبانجي همه وهاجسه المستمع ، فهو اذن يوازن بين الفن والتطريب ، وهي عملية نسبية ، وبصريح العبارة اقول ، انني لم استمع الى أي مطرب ، سواء سمعته عن طريق جهاز الصوت او من الذين عاصرتهم بمعرفة شخصية ، الى وجود مثل هذه الامكانية الفذة في التجول بين الانغام والسلالم داخل العمل الواحد ، مثل وجودها عند استاذنا الراحل القبانجي ، فهو قائد في غنائه ، ومدير لعمله الغنائي كله ، يمسك بتلابيب المستمع ولا يتركه الا بعد ان ينتهي من الغناء ، بعد ان يتأكد من تطريبه وانتشائه ، عند ذلك يشعر انه وصل الى غايته النبيلة في تحقيق رسالته .. هي موهبة اذن !! وهي خبرة ، وهو يفهم من خبرته وتجربته العميقة ، ان الركيزة الاساسية في العمل الفني الغناسيقي حصيلتها علاقته بالمستمع ، فهو اذن وعلى الرغم من التزامه بالاصول التقليدية للمسارات اللحنية للمقامات او التزامه بالشكل الغنائي المقامي عند الاداء ، يختزل بعض الاجزاء الثانوية بتصوره على الاقل ، واللاداعي لوجودها مع اضافة الكثير من عندياته ، من هنا فقد جاء بالكثير من الجديد حتى امسى صاحب اسلوب وطريقة غنائية فردية خاصة لا تضاهى ، بزت الطرق التي سبقته بحق ..! وقد سمعت مرة من احد الاصدقاء ، بأن القبانجي قال مرة ( ان العمل الغناسيقي ، القضية فيه قضية تطريب ، يمكن فيها التساهل ببعض الاصول التقليدية ..!) .. اذن هو يحاول بل يجيد ربط وتقوية علاقته بالمستمع حتى لو ضحى ببعض الامور المعتادة ، انها عملية موازنة ذكية ، وهو في اسلوبه هذا يريد ان يقول بان بعض الاجزاء او الجمل الغنائية التي تدخل ضمن قضية الاصول التقليدية لغناء المقام العراقي ، قد استهلكت ولا داعي لتكرارها في هذا العصر ..! فهو اذن يجنح الى الارتباط بروح العصر ومتطلباته …
صورة / زيارة الاستاذ القبانجي الشهيرة لمعهد الدراسات النغمية العراقي يوم 11/11/1974 واستماعه لبعض طلبة المعهد ، يظهر الاستاذ القبانجي يستمع الى الطالب حسين الاعظمي ويوجه له بعض النصائح
وسط الاساتذة والزملاء الطلبة ، وقد ظهر ايضا كل من الاستاذين الراحلين
روحي الخماش على العود وشعوبي ابراهيم على الجوزة ..
قد تتصور عزيزي القارئ وانت تقرأ هذه الاسطر بان القبانجي قد تجاوز على غناء الاصول الموروثة للمقام العراقي ، فاقول لك تمهل ولا تسرع في تصورك .. ذلك ان القبانجي مطرب فذ بكل المقاييس ، وهو فنان يفهم مهمته ، وهو عبقري عملاق ، في كيانه اصالة ، وثقافة تقليدية لهيكل غناء المقام العراقي وتعبيره وحلاوته ، وهو حريص كل الحرص على كيانه التاريخي الحضاري كتراث امة عظيمة سادت العالم في احدى مراحل التاريخ ، وهو قد اكد ذلك فعلا من خلال تسجيله للمقامات العراقية في بداية ظهوره ، على وضعها التقليدي القديم ، فهو اذن دوّنها تاريخيا ، وهو اذن لا يحاسب على معرفتها او فهم اغوارها ، ولكنه بعد تسيده للساحة الغنائية في العراق وبغداد على وجه الخصوص ، بدأ بتهذيب الكثير من متطلبات الاداء المقامي الملائم للفترة الزمنية التي عاشها ، وجاء بالكثير من عندياته من خلال الابتكار والاضافة وغيرها ، وعرضها بشكل يواكب روح عصره ، بل سبقه في التعبير واحدث وضعا فنيا قلب فيه جميع الموازين في الاوساط الغنائية المقامية ، حيث تخلى في بعضها عن المحلية في الابداع ، من خلال تأثره ببعض مشاركاته الخارجية في بعض المهرجانات ، واطلاعه على حال الفن خارج حدود العراق ..
صورة / القبانجي في زيارته الشهيرة لمعهد الدراسات النغمية العراقي يوم 11/11/1974 يقف وسط
زملائه المغنين المقاميين الذين قدموا معه الى المعهد فضلا عن اساتذة وطلبة
المعهد ، حيث يظهر منهم المطربون شهاب الاعظمي
ومجيد رشيد وحسن البناء ويونس يوسف
وكاتب المقالة في يسار الصورة
من خلال متابعتي ومعايشتي للوسط المقامي ، وممارستي لغناء المقام العراقي والاستماع اليه من شتى المؤدين ، فقد لاحظت منذ البداية ان معظم الابداعات المقامية التي ظهرت في القرن العشرين لدى المؤدين الاخرين كانت جذورها من اشعاعات وانجازات وافكار محمد القبانجي النيرة ، التي استطاع في معظمها ان يصل بها الى الذروة في الابداع ، ووصلت بعدها الاخر ذروة اخرى من الابداع لدى بعض من اتباعه اللاحقين من الذين تأثروا به واتبعوه وحملوا لواء طريقته الرائعة قُــدماً لتكملة مسيرة التطور الادائي للغناء المقامي البغدادي ..
وليس من الغريب ان تكون معظم المقامات العراقية التي سجلها القبانجي في تاريخه الحافل بصوته الفذ ، سواء على الاسطوانات او على الاشرطة المسجلة او في الاذاعة والتلفزيون ، كانت ناجحة بحق ، من حيث المنظور الفني العام للاداء المقامي وجماليات ادائه ، ولو استمعنا الى هذه المقامات لبدى لنا مدى الحبكة المتقنة في ادائه لها وصياغتها الفنية الغناسيقية ، رغم بعض تعقيدات البناء اللحني لبعض المقامات ، بيد انه كما عهدناه ، يغلفها ويؤطرها بالتطريب والتعبير المقامي البغدادي وبالنتيجة فاننا نشاركه عواطفه ومشاعره ..
واليك عزيزي القارئ الكريم رابطا الحلقتين من برنامج المقام العراقي الذي كنت اعده واقدمه من قناة التغيير خلال عامي (2011 و 2012) المتضمنة الحديث عن الطريقة القبانجية ومؤسسها مطرب العصور المقامية محمد القبانجي ، علما ان كل الحلقات الاخرى موجودة في موقع اليوتيوب ..
الحلقة 27 من برنامج المقام العراقي
الحلقة 28 من برنامج المقام العراقي
* هذه المقالة منشورة في جريدة الجمهورية في 28/3/1993 في ذكرى وفاته الرابعة.