المقامة الخرافية
حدثنا نبهان بن يقظان قال: سمعت في زماني من الأكاذيب، ما فاق ما رواه خرافةُ من أعاجيب. روى خرافةُ لبني عُذرَه، ما لا طاقة له به ولا قدرَه. قال أسرَتني الجنّ دهرا، فكأني لبثت فيهم عُمرا. أحوالهم عجب، ومقامي فيهم نصب. قال يقظان: بيدَ أن خرافة العصر، لا حدّ لها ولا حصر. حتى ضاق صدري، وساء أمري. وانعقد لساني، واربَدَّ جَناني. غير أني ذكرت حنظلَه، ومجالسه المُؤثَّلَه. فعزمت على الرحيل، لأزور الرجل النبيل. فألفيتُه قد سَرَب، تلقاءَ حَلب. فطلبته في ناديه، فإذا رجل يناديه. ثم دخلنا سويّا، فنظر إليّ مليّا. وقال: أنت أنت، كما كنت. وإذا بالرجل يسأله: يا حكيم إن جِنّيا يطاردني، ليتلبّسَ بي ويسكُنَني. أتنفعُ المقاومَه، أم هي المساومَه؟ قال حنظله: أيسكُنك بلا جَريرَه، وعنده الخيرُ والخميرَه؟ قال: فهبْ أن الجنيَّ حرَن، وأصرّ على السّكن. قال حنظله: فابلُغْ أقاصيَ الأرض، واسْلُكِ الطولَ والعَرض. فإن لك فيها دَعَه، ومُراغَما وسَعَه. قال الرجل: فإنهم يقولون إنها مسطّحَه، لا مُكوّرَة ولا مُفلطَحَه. أفرأيتَ إن وقعتُ في الأسر، وأحاط بيَ الذّل والقهر. في خليج الخنازير، والجنيُّ قد علمتَ يطير. فأين المفر، وكيف المستقر؟ فلو أنها كانت كُرَه، لغاب عنه ما لم يَرَه. لكنها مكشوفَه، بالجليد محفوفَه. قال حنظله: ففِرّ إلى القمر، ففيه يطيب السمر. قال: لكنهم ما وصلوه، كلا وما وطِئوه. وإنما شُبّهَ لهم، تبّا لهم. وما النزول إلا خُدعَه، جَرتْ في أي بُقعَه. وأولئك الأمريكان، أباليسُ وجان. قال حنظله: فسلّط على جِنّيك العَين، فإنها تُفسد ذاتَ البين. وتُسقط من الفم اللقمه، وتُنزل بالغافل النّقمه. وتُزيل الروح من الجسد، وتُفقر الغنيّ من حسد. أو اصنعْ له سحرا، يُصيّرُه لك صِهرا. فتظفر بذات الجمال، ويُسكنك قصرَ ابنِ طلال. وهل عنده أعزّ من ابنتِه، من ذريته وعِترته؟ جِنيّةٌ ذاتُ الدلال، والمهابة والكمال. وقد يُسبغ عليك من نعمه، ويُجزل لك العطاء من كرمه. وقد يُدنيك من مجلسِه، فتكون قرينَ مُؤنسِه. فبرقتْ أساريرُ الرجل، ولم يَنبِسْ ولم يقلْ. ثم مضى لحاله، بعد أن أدى من ماله.
قال نبهان: فدخل الذي بَعده، يشكو السفرَ وبُعده. ثم قال: أيها الحكيم المبجّل، لقد رأيتُ فيما يرى النائم، أني نائم وأنا قائم. ورأيت قردا يضحك بلا سبب، عديم الحياء والأدب. ورأيت ثَمّ الضفدع، متكئا وهو يرضع. فما تأويله، وما تعليله؟ قال حنظله: أما نومك في قيام، فمالٌ يأتيك في صيام. وأما قردك الضاحك، فحاسد مماحِك. والضفدع وليدٌ قادم، بخير عارم. قال الرجل: قبّحَ الله القردَه، والعائنين الحسدَه. لكن ما العمل يا حكيم، جُزيت الجزاء العظيم؟ قال حنظله: ائتني بصاع من تمرِ المدينَه، ونعجةٍ سمينَه. فإذا اكتمل البدر، وأصابك القَطر. فاحتسبْ نعجتك والتمر، ولك الثواب والأجر. واجعلهما صدقة جاريَه، تنفعني وعِياليَه. لا يضرّك غول ولا حاسد، ويهابك كل شيطان مارد. فمضى الرجل بَشّا شاكرا، لا مجادلا ولا ناكرا. ثم دخل ثالثٌ من أهل المدَر، لا يؤمن بقضاء ولا قدَر. قال يا حكيم الزمان، وصاحبَ الشان. أَنّى لي بنملة أرملَه، مُهانة مُهملَه؟ وزغَبِ فأرٍ يتيم، على شَفا جُرُف عظيم؟ قال حنظله: وما حاجتُك إلى ذلك، أضاقت عليك المسالك؟ قال: امرأتي عاقر، وأنا حائر. قال: فعليك بالبَغلة الشريفهَ، ودعْ عنك التَّهاتِهَ السخيفَه. خُذْ روْثَ البغلةِ الخاتون، واشْربهُ أنت وزوجُك المصون. تَلدْ لكَ عشَرَه، أوّلُهم كالحيْدرَه. وآخرُهم فارسٌ مِقدام، نِعم الشّهمُ الهُمام.
قال نبهان: ثم تتابع الناس أفواجا، يُلجِّجون تلجيجا. كل ذلك وأنا أرى وأسمع، ولا أكاد أصدق ما يقع. فقلت لحنظلة ما هذا الذي ابتدعت، وأيَّ آثام اجترحت؟ إني تركت قومي لأجل الخرافَه، فألفيتُك زدتَ على الخرافة عِرافَه. فأنشأ حنظلة يقول:
إذا الناسُ أضحَوْا عبيدَ الخُرافَهْ ؞؞؞ وصار الغرابُ لدَيهمْ زَرافَهْ
وكان الضّجيجُ كصمتِ القبورِ ؞؞؞ وعلمُ الطبيبِ نظيرَ العِرافَهْ
ونُبلُ النّبيل كلُؤمِ اللئيمِ ؞؞؞ وصار الجَنانُ حبيسَ السَّخافَهْ
فليسَ عجيبًا كلامُ الوليدِ ؞؞؞ إذا ما العقولُ نأتْ عن رَصافَهْ
فصلِّ صلاةً ودَعْ كلَّ نُصْحٍ ؞؞؞ فما القومُ إلا عبيدُ خُرافَهْ
وسوم: العدد 792