في الحرب
حماد صبح
سارا في الشارع النافذ إلى المدينة . يلاقيهما الناس ماشين فرادى ومثاني وجماعات ، ويتجاوزهما في اتجاه المدينة آخرون في ذات أسلوب المشي . سيارات قليلة ودراجات نارية أكثر من السيارات . ذكريات وافدة من الماضي تصخب في رأسيهما . سارا سنين في هذا الشارع إلى المدرسة. هو إلى مدرسة البنين ، وهي إلى مدرسة البنات . المدرستان قرب شاطىء بحر المدينة . لم يكن الشارع زمانئذ مرصوفا ، ولم تكن السيارات تسير فيه إلا في النادر المتباعد . كانا يذهبان إلى المدرسة مشيا مثل سواهما من التلاميذ والتلميذات . ذكريات كثيرة استغلت وجودهما في الشارع وانبعثت حية من مغافيها . وحين حاذيا نخلة عالية مائلة نحو الشرق ، في الجانب الغربي من الشارع ؛ سألها : تذكرين ؟
أجابت : أذكر .
فصدمه ما في صوتها من وهن وحزن ، وأعاده إلى الواقع الدامي الملتهب ، فسبح بعينيه في أكثر من أفق . سحب دخان في أكثر من مكان ، وأصوات طائرات في الشمال ، وقصف مدفعية وانطلاق صواريخ في الجنوب . اختفت الذكريات فزعة جافلة من رعب الحال ودمويتها . وفي استحياء من نفسه ممزوج بحرارة الحزن قبض على هدب ما سألها عن ذكراه . يجب ألا تختفي هذه الذكرى مذعورة مثل غيرها . كان في الثالث الإعدادي ، وكانت في الثاني الإعدادي . وصباح يوم عصوف الريح مطير ، كان يسير قريبا منها قاصدين المدرسة ، وبدا الشارع للحظة خاليا ، وفجأة زلت قدمها وكادت تهوي في الماء الجاري ، فجذبها من كتفها اليمنى للخلف ، فاستوت واقفة . خجلا وارتجفا ، وابتعدت مسرعة . يستعيد الآن في نقاء وحنين ما شع في وجهها صباحئذ من حمرة الخجل ، وأضاء ماحدث إشراقة حبهما الأولى .
سألته : ما الأخبار ؟
فرد باقتضاب : سيئة .
_ لن تقف الحرب ؟
_ لا يبدو ذلك .
وارتجف صوتها وهي تسأله : سمعت عن منصور شيئا ؟
_ نسمع عنه كل خير إن شاء الله .
ووخزه في العمق ألم لا لين فيه . كيف جرؤ على أن يكذب عليها ؟! لم يكذب عليها مرة حبيبا أو زوجا . وشرع يخفف ألمه بأنه لا يحب أن يروعها إن باح لها بنبأ وجود ابنهما منصور في المستشفى بعد إصابته بشظية في فخذه اليسرى خلال تصديه مع عدد من رجال المقاومة لتوغل بعض العربات والمشاة الإسرائيليين في المنطقة التي كلف مع رفاقه بالقتال فيها . سترتاع وتقلق أعنف ارتياع وقلق إن سمعت نبأ إصابته ، ولن يفلح في تهدئتها مهما بين لها صادقا أن إصابته هينة ولن تؤدي إلى قطع ساقه. اطمأن على قلة خطورة الإصابة من طبيب صديق له يعمل في المستشفى الذي يعالج فيه منصور ؛ لأنه لم يستطع الاطمئنان عليه بنفسه لظروف الحروب ، وإن خالجه الشك لحظات في صحة وصف صديقه للإصابة . لا أحد يحب أن يخبر والدا بما يفزعه ويقلقه حول ولده . سأل نفسه متباعدا عن التفكير في إصابة منصور : يبدو أن الحرب أنستها أن اليوم يوافق الذكرى الحادية والعشرين لزواجهما ، وأنه استدعاها من الغرفة المدرسية التي تقيم فيها مع نسوة أخريات ليستعيدا معا تلك الذكرى . النسوة لا ينسين ذكرى مثل هذه . الحرب ظالمة شريرة تذبح دونما رأفة كل ما هو جميل وإنساني . ربما أنستها فواجع الحرب ذكرى زواجهما التي ألفا الاحتفال بها كل سنة . أي حال رهيبة تعود فيها تلك الذكرى الحبيبة ؟! مالا عفويا ودونما طلب من أي واحد منهما في شارع جانبي ضيق انبسطت على جانبيه بساتين كبيرة وصغيرة تتخللها بيوت مختلفة الأحجام والألوان . هل يذكرها ؟! لوتذكره ! يحس بقوة صارمة أنه لا قيمة ولا معنى لاستعادة الذكرى . الموت والدمار والحزن في كل مكان . شدائد وأخطار تنسيك نفسك . جنون بشري قطع كل قيد . حدث نفسه كأنه وحده : لكنهم ظلمونا ، لم يبقوا لنا شيئا نعيش به ونعيش له . سرقوا وطننا وكل مقومات وجودنا . هم القتلة السيئون ونحن الضحية الطيبة . نريد أن نحيا ونحب ونتزوج ونحتفل بذكريات جميلة مثل بقية البشر . كل هذا تقتله الحرب . قتله الإسرائيليون في حياتنا . سألته وهما عائدان إلى مدرسة اللجوء : كم التاريخ ؟
فاجأه سؤالها . هل تذكرت ؟! ونظر إلى وجهها ، وأوجعه أنه لم ينظر إليه منذ التقيا ، وهاله ما فيه من كدرة الهم والاكتئاب .التفت خلفه ، هم أن يقبل وجهها الحبيب ، وفزع من تردده في تقبيله إلا أنه حمد الله فورا ! انبعثت امرأة سوداء قصيرة بدينة من باب بيت على الجانب الشمالي من الشارع . نظرت إليهما في بطء ، وقالت : الحمد لله على السلامة .
وخصت زوجته بالكلام قائلة : تفضلي ! في المدرسة ؟!
فقالت دون أن تنظر إليها : ربنا يقصر الشدة .
وانحنت المرأة تكنس أمام الباب ، ثم وقفت وقالت : تفضلي أنت وزوجك ! أبو سعيد في البيت .
قال مفتعلا ابتسامة : شكرا يا أم سعيد .
وابتعدا عنها . عادت تسأله : كم التاريخ ؟
_ 24 يوليو .
فتوقفت ونظرت في وجهه جامدة صامتة ، وفي ثوانٍ هوت جالسة تنتحب وتشهق .
كان اليوم الذكرى الثانية والعشرين لزواجهما .