أبو هيثم
مصطفى حمزة
اللاذقية – المرفأ – صيف 1947 م
كنّا في استراحة الغَداء في عزّ الصيف ، الرطوبة شديدة ، مُعبّقة بمزيج من الروائح اللاذعة المتنوّعة الفائحة من البحر ومن البضائع في المستودعات ، ومن البواخر القديمة المنتظرة ، و من أكداس الأكياس على الرصيف ، والمُخلّفات المتناثرة هنا وهناك ..
كنتُ أتمشّى ألتقمُ سندويشة الفلافل قبل أن تنتهي استراحة الغداء ؛ فهناكَ عشرات الرصّات تنتظرني وزملائي من الشيّالين لنقلها من الرصيف إلى داخل المستودع . وكنتُ شابّاً في الحادية والعشرين ، قويّاً مفتول العضلات ، لكنني كسيرُ النفس محزون ، مجروح ، فقد ضاقت المدينة عن عملٍ لي آخر أساعد بأجره أبي الذي انكسرت تجارتُه .. رحمه الله تعالى .
قميصي ألبسه على لحم جسمي ، وأعقده عند السّـُرّة ، وألبس تحته بنطالاً لا لون له وحذاءً صيفياً من يراني أنتعله يظن أنني حافي القدمين !! مشيتُ تركل قدمايَ بلا مبالاة ما تناثر في طريقي على الرصيف مِن مرميّات متنوّعة ، وأكياس ورقيّة محشوّة بالقمامة ، وبقايا الطعام .. كنتُ أتسلّى بذلك .. شاردَ الذهن ، مكدوداً مُتعباً ..
وإذا بي أركلُ أحدَ الأكياس الورقيّة ؛ فأشعرُ بأنّ فيه شيئاً ما ! انحنيتُ والتقطتُهُ ، وحين فضضتُهُ وقعتْ عيناي على رزمٍ من النقود ! تفحّصتُها سريعاً وأنا أخاف أن يراني أحدٌ ! كانتْ كلّها من فئة عشر ليرات ، وكانت بضعة ليرات في تلك الأيام تكفي لمعيشة أسرة لعدة أيام ! تسارعتْ دقّاتُ قلبي بشدّة حتى سمعتُها ! وخِلتُ أنّها ستُخبر الناسَ عنّي وتفضحُ ما عثرتُ عليه ! لففتُ الكيسَ بأطرافه ثم دَسَسْتهُ داخلَ قميصي المعقود إلى بطني ، وأرجعته وراء خاصرتي لئلا يلمحه أحد ، وأكملتُ التقام سندويشتي ، ثم عُدتُ إلى زملائي .
من بعيد لمحتُ الشيّالين مجتمعين ، ولمّا اقتربتُ وجدتُهم يتحلّقون حولَ رجلٍ مذعورٍ يلطمُ وجههُ ويبكي ويصيح :
- انخربْ بيتي .. يا ألله .. والله ليعْمِلْ فيني أبو هاني العَمايـِل !!
ومرفأ اللاذقية آنذاك كانَ يُديره رجلٌ واحدٌ ، قويّ ( معلّم ) له كلمته وثقله في المدينة ، اسمه أبو هاني قدسي .
بدا لي الرجلُ سِتّينيّاً ، نحيلاً ، ناتئ الوجنتين ، له لحية خفيفة بيضاء ، فوق رأسه طربوش أحمر متهالك ، ويلبس سترة قصيرة فوقَ بنطالٍ من لونٍ آخر مُنْحَسـِرٍ عن حذاءٍ مغبرٍّ قديم ..
وتسارعتْ إلى سمعي هذه العبارات :
- مُحاسب عند " أبو هاني "
- مسكين .. أضاعَ الغلّة !
- والله ليخربْ بيتو أبو هاني .. ما عندو يا أمّي ارحميني !!
اندفعتُ إليه مخترقاً الزّحامَ حوله ، ثمّ أخذته من يده وابتعدتُ به عن الحشد . انقاد لي وهو ينظر في وجهي مستغرباً مُستنجِداً ، ودموعه تُرطب غُضونَ خدّيْهِ !
- وكّل الله ياعم .. شو ضايع لكْ ؟
- كيس المصاري .. معاشات العمال يا بني .. الشهريّة كاملة ! كنتُ في طريقي لأوزّعها عليهم فجأة شعرت بصداع رهيب ، فجلستُ لأستريحَ قليلاً عندَ الرصيف هناك – وأشار بيده إلى حيثُ كنتُ أتمشّى – ثم نهضتُ وتابعتُ سيري .. ولا أعرف أين ومتى سقط الكيسُ منّي !!
- شو كان بالكيس عمّي ؟
- رزم أم العشرة .. خمسة آلاف ليرة سوريّة .
- ممكن تعطيني علامة عمّي ؟
نظر إليّ بابتسامة غريبة ، وبرقت في عينيه سحائبُ الأمل ! ثم هجم عليّ وأمسك بكتـِفيّ :
- الكيس معك يا بني ؟ طمّني ... ريّحْني الله يريّحك !
- صلّي عالنبي عمّي .. شو في كمان بالكيس غير المصاري ؟
صاح :
- عويناتي .. عويناتي الطبّيّة .. لونها أشقر ..
عندها أخرجتُ الكيسَ وناولتُهُ إيّاه ، وقلت له :
- خذ عمّي .. والله ما مددتُ يدي إلى المصاري ، فقط ألقيتُ نظرة على محتواه .
التقطَ الكيسَ من يدي بلهفة ، ثم أخرج النظارة منه ووضعها أمام عينيه و أطلق أصابعه يُمررها بين الرزم .. بعد قليل تنهّدَ تنهيدة عميقة ، وأخرج من جيب سترته منديلاً وراح يمسح به العرق المتصبب من جبهته ورقبته . ثمّ رأيته يدسّ يده في جيب سترته ويُخرج منها علبة سجائر معدنية ، فتحها وأخرج منها سيجارة واحدة ملفوفة باليد ، وقدّمها لي :
- اقبلها مني يا بني .. الله يخلّيك . والله ما في شي تاني أعطيك إياه !
أخذتها من يده ، وثبتها فوق أذني :
- ولا يهمّك عمّي .. الله معك .
*****
اللاذقية – صيف 1969 م
أنا في العاشرة من عمري ، وكان وقتئذٍ موظّفاً لدى مؤسسة النقل الداخلي ويبدو أكبر من عمره بسنوات من شقوة المرفأ ! عملُهُ أنْ يقبض من الجُباة غلاّتهم اليوميّة ويُقارن بينها وبين أرقام التذاكر المسلّمة إليهم ، ثم يحتفظ بها في صندوقه الحديديّ ليودعَها المصرفَ في اليوم التالي . وقد اعتادَ من باب الحيطة ألاّ يترك غلّة يوم الخميس في الصندوق ؛ فكان يصطحبها معه إلى البيت ويقفل عليها حتى صباح السبت .
لازلتُ أذكرُ تلك الحقيبة السوداء السميكة التي كانت تحضن غلاّت أيام الخميس ! فكم من ليلة كنتُ أرقبه فيها يُفرغ محتوياتها على الحصير ثم يعدّها ويُعيدها ، ويُحكم قفلها ، ثم يرفعها فوق الخزانة الكبيرة في غرفة النوم .
وفي عصر ذلك اليوم ، كان يتأبطها بيد ، ويُمسك كفّي الصغيرَ بيده الأخرى ، ويسير بي برفق في ساحة السمك الفسيحة وسط المدينة . وأنا لا أزال أطبق أسناني على قطنة طبيب الأسنان الذي غادرناه قبل قليل . لقد أوصته أمّي أن يجلب معه (أكلة) سمك لتكون غداءنا يوم الجمعة فراح يتنقل من بائع إلى بائع ليختار لنا السمك الذي نُحبّه ، وكان يقرفص هنيهة عند كل كومة سمك فيُعاين غلاصم إحداها ليتأكد من احمرارها وأنّها من صيد اليوم وليست من سمك الثلاجة
اشترى طلبَه ، ثمّ غادرنا الساحة باتجاه مواقف الحافلات ، ولم نكن قد مشينا بعيداً حين صاح فجأة بصوت مُرعب :
- الشنطة يا مصطفى .. الشنطة .. المصاري !!
وهرول راجعاً ، وتركني ألحق به خائفاً وسطَ تساؤل وتعجب المارّين ! دخل ساحة السمك وهو يُنادي :
- ياناس ،يا أولاد الحلال : الشنطة .. مين شاف شنطة ؟ فيها المصاري .. مصاري الحكومة ؟! الله يخليكم ..
كان بعضُهم يرفع رأسهُ إليه ويُبدي الإشفاق والتعاطف معه ، وبعضهم كان غير مُبالٍ .. أمّا هو فقد أوشكَ قلبه أن يقف من هول الصدمة !
وسمعَ من أقصى الساحة صوت أحد الباعة يُناديه :
- أبو هيثم ، تعال ..
فهُرعَ إليه يسبقه تساؤله المُرهـَق :
- أبو حسان ، شفت الشنطة ؟! والله مليانة .. غلة اليوم !
- صلي عالنبي أبو هيثم ، روق .. تعال اقعد . وقدّم إليه كرسيا صغيراً . هات الولد ، تعال عمّي ورفعني وأجلسني أمامه على الطاولة .
- شو فيها الشنطة أبو هيثم ؟
- رزم أم المئة ،ورزم أم خمس وعشرين ، وفراطة ملفوفين بورق ، كل لفة بعشرين ليرة لاففهم بإيدي !
- وشو فيها كمان ؟
- ..... وفيها نظارتي الطبية ... لونها أشقر
فأخرج أبو حسان الشنطة من تحت الطاولة ، ودفع بها إليه :
- تفضل .. والله أنت ابن حلال .. دير بالك مرة تاني .. نسيتَها عالبسطة .. وما انتبهت عليها إلا بعد ما رحت !
التقطها منه بلهفة ، وفتحها بسرعة فأخرج منها نظارته ثم راح يُلامس محتوياتها بأصابعَ مرتجفة ! فلمّا اطمأنّ وهدأ ؛ نظر إلى بائع السمك نظرة امتنان كبير :
- الله يريّح بالك يا أبو حسّان .. والله انقطع نفـَسي .. وكان قلبي رح يوقف !
وفتح علبة سجائرة المعدنيّة ، وقدّم له منها سيجارة :
- تفضل أخي أبو حسّان ، والله المصاري اللي بالشنطة ما لي فيها إلاّ النظر !
تناول أبو حسان السيجارة وأجابه :
- نحن لبعض أبو هيثم .. نحن لبعض . الله لا يشغل بالك على غالي .
رفعتُ نظري إليه ، ونظر إليّ :
- بابا !!
- ...................
ومسحتُ دمعتين سقطتا على وجهي !