صرت يتيمة ..!
نصوح الشاعر ينشد شعراً ينطبق على عدو خارجي وداخلي:
هذا العدو يكره الأشعار .. و يقتل الأطفال و الأزهار
له جبين شائه منهار ...
يُرهبه أن تولد الأفكار
في رأسنا المثقل بالثمار ... يهم أن يطفئنا و يطفئ الشّرار
يهم أن يقتلنا و يقتل الأشعار
و يدفن الأطفال و الأزهار
1 _ قال الراوي : و تفعل الأقدار فعلها المحكم ، فالسماء قد جفّ دمعها هذا الموسم ، فَحْلُ الشتاء (كانون) بدا جافياً هذه المرة ، كما هو في كل الإقليم اليعربي ، و كأنه ينبئ بالحدث ، و عيون الغيلان التلمودية تحتل سماء غزة ، و هي ترقب كل حركة و سكنة على الأرض التي آوت إليها على مر الزمان الأبطال المودعين لأرض الشام المباركة ، ميممين إفريقيا يبتغون الفتح .. و أهل غزة ( الوداع ) عيونهم تدور في السماء ، علّها تحظى بقطرات حرّى ، تنهمل من مآقي أولئك الأبطال ، الذين تزودوا يوماً من روح غزة لحظة الفراق ، فتنبت تلك القطرات زهوراً و أطفالاً تُزين رأسهم بتيجان الغار ؛ حيث تتجاوز بذلك سوء المصير ، الذي وصف فيه الشاعر قلبه بقوله : ذلك الصامت الكئيب ، المتبدد ، المهدد بالسقوط مثل كل المدائن العربية .
2 _ و تابع الراوي فقال : و الآن دعوني أقص عليكم نبأ تلك الطفلة الغزية الجميلة ، مخضلة العينين و الخدين، التي أبكت القلوب قبل العيون ، حين حملتها الإعلامية المتقنة إلى بيتها المهدم في غزة ، و قد كانت فوهات الغيلان قد صمتت بعد أن أعجزها صمود الفرسان .
قال الراوي : سوف أفسر لكم فعل الأقدار المحكمة ؛ قررت ( الطفلة ) الخروج على المألوف ، فأعلنت نبأها : إنها فتاة أمنت بترابها أمانة من ربها ، وضعها في ذمة الأهل ، فكانت تصب جام جهدها في دراستها ، التي جعلت منها حقل جهادها المناسب لسنها و مكانها ، لم تكن تدري أن الدم صار ماءً ، و أن الأقزام القريبين البعيدين رهنوا أسيافهم للعدو ، لكنها كانت و هي تصلي الفجر مع الوالدة ، تشعل في قلبها شمعة تضيء الساعات المقبلة ، و تحتفظ لها بذاكرتها بتفاؤل دانية رؤاه ، ترسل به رسالة ودٍّ إلى كل أطفال العالم ، و تزينه بوضوح الرجاء ، كي يعملوا على تقويض الحصار بقلوبهم الصغيرة البريئة ؛ إذ كانت تظن أنهم حمّلوا لمدينتهم سفن الفتح بهدايا الانتصار .
و في ذلك اليوم الكانوني القائظ ، و كان يوم جمعة ، رافقت والدها إلى بيت جدتها و خالتها في زيارة ودٍّ ورحم
وعرفان ، و كانت و هي في السيارة ترقب الشوارع ، و تتملى بناظريها كل التفاصيل ، و كأنها لم ترها من قبل، و هي التي مرت بها عشرات المرات في زياراتها المتكررة لبيت جدتها ، و في ذهابها إلى المدرسة و إيابها منها. و هنا تذكرت الزميلات : فاطمة ، و حنان ، و خالدة ، تذكرت ساعات اللهو ، و ساعات الجد ، وتنهدت تنهيدة طويلة ، ثم ألقت برأسها على كتف والدها ، المشغول بالقيادة ، فما كان منه إلا أن مسح بيده على رأسها قائلاً :
_ ما بك يا بنيتي ، هل بك مرض أو ألم ؟
_ لا .. لا يا أبي ، و لكن شوقاً غامضاً يدفعني إلى مزيد من ملء البصر بمشاهد مدينتنا ، و كأني في طريقي إلى مغادرتها ..!
ضحك الأب ضحكة خفيفة ، و ربت على ظهرها بحنان ، ثم طمأنها بقوله : لا تخافي يا صغيرتي ( يا ما ستشاهدين غزة ) مزهوة ببحرها و رجالها و أطفالها المشوقين إليها مثلك ، لا تقلقي فهذه غزة بين يديك ، وغداً أعود إليك لنعود معاً إلى بيتنا الجميل المشتاق أبداً لصوتك الحنون ، ترتلين آيات الله بعد صلاة الفجر .
3 _ و اليوم الثاني يوم آخر ، قال الراوي :
كانت الطفلة على موعد مع والدها ليعود بها إلى بيتهم ، و كانت ترقب صعود الشمس في كبد السماء رويداً رويداً ، و رغم أن ( أربعينية الشتاء ) كانت في عزها إلا أن الشمس كانت تدفئ الوجود ، فيبعث دفؤها كثيراً من الحيوية في جسد الطفلة الجميلة التي أقلقها تأخر أبيها عن الحضور ، فكانت تروح و تغدو لتطل من النافذة.. ثم تقول :
_ ها قد قاربت شمس اليوم على احتلال منتصف السماء ، و ما أن مرّت بخاطرها كلمة احتلال حتى دبت في جسدها قشعريرة راعبة ، و دون أن تتمالك مشاعرها وجدت نفسها تردد بصوت خافت : أين أبي ، أين أبي ؟ و ما إن انتهت من التفلظ بآخر حرف من حروف الكلمة ، حتى ضجت المدينة بصوت انفجارات متتالية هائلة، اهتزت لها كل موجودات البيت ، فما كان من الفتاة إلا أن هرعت إلى جدتها وهي تصيح مذعورة : أبي، أين أبي .. ؟ احتضنتها جدتها محاولة طمأنتها بأن أباها سوف يحضر ، و لن يتأخر .
و تتالت الأصوات الراعبة ، و هربت من مخيلة الفتاة مشاهد غزة ، التي رسمتها في أثناء الطريق إلى بيت جدتها ، و راحت تحل مكانها تخيلات مخيفة ، و سكنت في روعها أصوات الطائرات تتتالى ، و قد شاهدت بعضها تقذف حمماً لا تدري الطفلة أين و على من تقع ، و لكن خاطراً رعيباً داهم مخيلتها يقول : لماذا تأخر أبي ؟ أتكون إحدى الحمم قد سقطت على الأهل ؟ لا .. لا .. لا يمكن أن أفقد أمي ، و لكن أبي لم يحضر! أين هو ، وحمودة أخي ؟ مع من سألعب و أحفظ و أتلو و ألهو ؟؟
حاولت الفتاة محو تداعيات هذا الخاطر ، و لكنها عبثاً كانت تحاول ؛ فقد كان الخاطر طاغياً ، حثيث الغزو، يبعث في روعها هواجس متنوعة ، تروح و تغدو ، و تمارس عليها افتراساً لتوازنها الذي كانت تعرفه في سلوكها، وتساءلت في سرها دون أن تسمع جدتها التي تختضنها سؤالها : ماذا حل بي ، لماذا تراود مخيلتي شتى الأفكار السوداء ؟ فأتخيل مدرستي مهدومة و تغزوني صورة لحنان و فاطمة و خالدة مضرجات بالدماء ،
وصورة أخرى لشوراع غزة وبيوتها ، و قد هدمتها الغيلان الضارية .. و قد اختلطت تلك الصور بحضور كلمات لمعلمتها قالتها لبنات الفصل : يهود لا يرعوون ؛ إنهم على دين يوشع ، هدم البيوت مهمة مستمرة عندهم ، فعلوها من قبل ، في مدينة القنيطرة السورية ، التي حولوها إلى كومة من دمار ، و في مئات القرى الفلسطينية التي هدموها بدم بارد .
_ أواه .. أين أبي ..؟ لقد حلّ الليل و لم يحضر ، و مضى يوم و يومان و ثلاثة و لم يحضر !
4 _ و قال الراوي : و لن يحضر ! ففي دار الشفاء رووا لنا القصة ، لقد أنذر الوالد بالخروج من منزله قبل أن يقصف و يدمر ، ولما خرج مع الزوجة و حمودة الابن ، قصفت سيارتهم بصاروخ غادر ، حولها و من بداخلها إلى أشلاء ..
_ آه .. صرت يتيمة ؟! و اغرورقت عيناها بالدموع ...
قالت الطفلة ذلك للإعلامية المتقنة ، التي تبرعت بمرافقتها إلى بيتها ، و كان ذلك و هما تسيران فوق ركام منزل العائلة المفقودة ، و راحت الفتاة تمشي أمام الإعلامية فوق الركام و تقول لها و هي تجهش بالبكاء : انظري ، هذا (مريول حمودة ) ، كان يلبسه للمدرسة ، و كانت قد أخرجته من تحت الركام ، و هنا كانت غرفتي ، هذا الركام هو غرفتي ؟ و انتابت الطفلة موجة حادة من البكاء ، بينما كان يخالط نشيجها بعض كلمات غامضة ، تبينت الإعلامية منها : ذهب حمودة ، ذهبت أمي ، ذهب أبي .. مع من سوف أذهب إلى المدرسة ؟
أمسكت الإعلامية بها و احتضنتها ، و مسحت الدمع عن وجهها الذي علت تضاريسه مسحة ملائكية ، وانطلق بصرها بنظرة بعيدة جادة ، خيل للإعلامية من خلالها أنها تقول : مهلكم أيها البرابرة ؛ فاليتيمة سوف تكبر ، ولن يكون لكم مقام في أرضنا ، و الأيام بيننا ، و لسوف ترون كيف أننا نطيل سيوفنا بأذرعنا ..!!
وسوم: العدد 815