لا .. لن نغادر .. !
هذه قصة، لو وضعْتَ مكان غزة اسمَ أيّ مدينة سورية، لكان الخطب أكبر، إذ اجتمعت الغربان هناك على جثث الأطفال من حدب وصوب، فلم يتركوا لعقل فرصة ليتدبر..!
تكلم نزار فقال :
لا تسأليني فالسؤال إهانة
نيران إسرائيل تحرق أهلنا
و بلادنَا و تراثَنا الباقي
و نحن جليد !!
غزة بين يديك ، و برد كانون عاجز عن إطفاء الحريق ، السماء نار فسفورية ، و الأرض تحترق ، و الصغار الذين كان يجب أن يكونوا آمنين على مقاعد الدرس في ذلك الصباح الكانوني ، لم يبق في عيونهم ما يقولونه سوى الرعب ، ثم الانتقال من المقاعد إلى المستشفيات أشلاءً محترقة أو مقطعة ، لقد غادرهم الأمن لحظة سقطت غادرات متفجرات يهود ضحى السابع والعشرين الكانوني ، و غام في ذاكرتهم ذلك الحلم الجميل بيوم يكون لهم فيه وطن .
أواه .. ! أين أبحث عن ذلك الأمل ؟ فقد طار شعر الفرسان من كتب بلادي ، و التجأ السيف إلى غمده حزيناً؛ فالفارس الأصيل رُحّل إلى الأقبية ، و أصبحت أوراقنا خاوية إلا من رسائل بائسة ، يغنيها الباحثون عن قامات في قمامات بني التلمود
لم يبق لي إلا أن ألاحق الشاشة الصغيرة ، التي خصصت ليلها و نهارها لبث مشاهد و مشاعر غزة ؛ علّني أجد فيها شيئاً مما افتقدته في شوارع الأعراب ، و تفجؤك أنياب الطائرات تمزق الجثث جماعات ووحداناً ، و يلتقط بصرك صورة أولئك الأطفال الثلاثة الذين قضوا تحت وطأة تلك الأنياب الهمجية ، التي ترجمت التلمود بلغة بربرية ، و لا أفحش و لا أوجع .. كانوا ممددين في المستشفى ، و كأنهم نيام ، بوجوه هي أشبه بوجوه الملائكة براءةً و رضىً ، و كأن اللحظة الأخيرة التي كانوا فيها أحياءً بين الناس قبضت فيها أبصارهم أنوار بشرى بيوت آمنة ، و شوارع مطمئنة ، تأوي فيها إلى جنب الله طيوراً خضراً تحفها قناديل من نور رباني ، رسم تلك التضاريس المطمئنة على الوجوه ، التي تبادرك بتحية البقاء لا العدم ...
و مرة أخرى تخونني الذاكرة ؛ فمنذ زمن بعيد غادرتنا جملٌ كنا نتغنى بها على مقاعد الدرس أيام كنا صغاراً كأطفال غزة المتروكين أشلاء على أرصفة كانون ، كان المعلمون يصرون على أن تهتز قلوبنا ، و تختزن بقول القائد الفذ: (( من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم : الجواب ما تراه لا ما تسمعه )) ..! و تنبعث أسئلة من داخلي ، كانت تصل إلى حنجرتي خارجة من بين شفتي كالأنين : كيف نسينا ..؟ هل تجمدت الأحاسيس ..؟ لقد افتقدنا موسم الثلج هذا العام ، فمن أين تسرب الجليد إلى مروءتنا .. إلى نجدتنا ، فلم يترك بين أيدينا سوى لقيمات أو بضع قطع غيار نقدمها إلى غزة آخر معاقل الشام الحبيب ، و إذن فأين ضاعت نخوة المعتصم ..؟! لقد اختبأت خلف سورة الجبن و الضياع ، فلم تفصح عن أي حراك أمام مشهد تلك الطفلة الغزية التي فقدت ساقيها بفعل همجية التلمود ؛ فأبصرناها على سرير الشفاء تقول لزائرها مراسل القناة الفضائية : (( لقد حاولوا إنهاء مستقبلي ، و لكني إن شاء الله سأكون صحفية أفضح جرائم يهود ، سوف أتابع وأتغلب على الوضع الجديد ، و لسوف أرمم ما هدموه إن شاء الله ؛ فلا يأس .. أين العالم ..؟! يجب أن يساعدونا )) .
لقد كان الكلام الرسمي فضائحاً ، و كانت الشوارع تموج ، و لكنها في مكانها تراوح ، و انتظرَ فرسان غزة المدد، و لكنه لم يغادر الشفاه ، فدبّجوا وحدهم قصائد الزمان ، مسكونة بحروف البنادق ، مزهوة بقوافي المعجزات ، حتى إذا أطل الشانئون، القابعون على أطراف الأفق يُخذَّلون الركب ، نجمت فوق تخوم الديار نضارة الكلمات الغالية ، متدحرجة من شفاه جراح الأطفال الغزيين ، متدفقة بنور المعجزات ، فكأنها حجزت لها تذكرة على أول طائرة مغادرة سوق النفاق .
وبينما كانت عيناك تغمضان و تتفتحان بين الغفو و الصحو ، و قد اخضلتا بدمعتين حارتين ، سقطت لؤلؤتاهما فوق الوجنتين ، ثم تتابعت حتى تبللت شعرات اللحية الخفيفة التي تزين وجهك ، إذ بمشهد غامر لطفلة غزية عامرة بالحياة ، غادرت منذ زمن سوق النفاق ، تتحدث أمام بيتها المهدم في أحد أحياء غزة المدمرة، لقد وهنت الذاكرة ، فلم تستطع الاحتفاظ باسمه ، أهو حي التفاح الذي كان مزهواً ببساتين التفاح ؟ أم هو حي عزبة عبد ربه ؟ على كل حال كانت الطفلة تتدفق بلغة فصيحة ، و كأنها تقرأ من كتاب مفتوح : فقدت أخي ، فقدت ابن عمي ، كنت ألعب معهما ، فقدت أمي .. أمي التي كانت تعلمني ، و تحفظني القرآن ، و تشتري لي ما أحتاجه ، و تضمني بحنان ..! لماذا قتلوا أمي ، وهدموا بيتنا ، من أين لي بأم ؟ ولكن لن نغادر أرضنا ، فهنا أرض المحشر و المنشر .
غادرك النوم ، و انتصبت جالساً، وعيناك تحملقان بتلك المعجزة وهي تتابع : لا لن نيأس، لن نغادر نحن أصحاب الأرض..
وتنهدتُ تنهيدةً حرّى قائلاً : رباه لقد و جدتها ! و لكن :
_ من أين لأطفال غزة تلك الفصاحة ؟
_ من أين لهم تلك الشجاعة و الصمود ؟
_ من أين لهم ذلك الصبر الفذ و التحمل الذي ضاع منا نحن المتفرجين الخاوين ؟
_ كيف حازوا على كل ذلك القول المعجز ؟
لن نغادر أرضنا ..! آه .. لا بد أنهم تعلموها من الفرسان ، الذين صنعوا قصائد الزمان ؛ فهم في مدارس المساجد تخرجوا ، وعلى الأيدي المتوضئة تربوا و ترعرعوا .
_ وماذا عساكِ تفعلين أيتها البنت الفصيحة الصامدة ، وأنتِ ساهمة تنظرين إلى بيتك المهدم ، وللتو ودعتِ جثث الأحبة؟
وخِلتُ أن بضع كلمات تدحرجت على شفتي الطفلة تقول :
_ صحيح أنني حزينة ، و لكن حزني قوة و عزم ، لن يقعدني أبداً ..!
لقد حرقوا مزارعكم : التفاح و البرتقال و الزيتون و الرمان و العنب ، دمرتها أنياب الجرافات ، و الأحباب غادروا و أنت صغيرة ؟ وخيل إليك أن الطفلة بعد أن أرسلت ناظريها إلى الأفق الموصول بالبحر تجيبك بلسان الحال :
_ أنا صغيرة ، ولكن آمالي كبيرة، وهمتي لم تهن بل تعملقت ، ولن نغادر أرضنا ، ولسوف نعيد الحياة لكل شيء إن شاء الله .
لقد بعثت هذه الكلمات في ذاكرتك إنشاداً لشاعر يقول :
(أنا مسؤول عن هذا الوطن الجميل / الذي رسمته مرة بانتصاراتي / و مرة بفتوحاتي و أوسمتي ، ومرة بانكساراتي ودموعي)
ووددتَ لو أن جملة : ( لن نغادر ) تُستنسخ في كل آفاقنا ، لتردد كل الشوارع : كم كبا الجواد ثم نهض، فكان طوداً هزم كل الظلام . و كلمات تلك الطفلة هي البرهان .
وسوم: العدد 816