رمضان قُوطَرْ
حيدر قفه
بَلَّلْلَنا الأرضَ والجدران قُبيل المغرب بساعة... نُخفف من زفير الجدران، وصَهْدِ الأرض الذي خَزَّنَتْهُ الشمس في كل شيء حولنا، كانت ساحة البيت والحائط المنخفض الذي يُحدد لنا قِسْمَاً من الحوْشِ مجلسَنا عند الإفطار إذا ضرب مدفعُهُ عند غروب الشمس، ومع أَنَّ بلدتنا يومذاك كانت لا تملك مدفعاً للإفطار، إلا أننا كنا نُفطر على مدفع القاهرة، تُرسل دَويَّهُ إلينا إذاعةُ القاهرة، فنسارع إلى أكل التمر. ومع أنَّ والدي – رحمه الله – قد نَـبَّهَ أصدقاءه إلى أن (الحُسينية) تقع شرقي القاهرة بمسافة طويلة تُحتم أن يكون الغروب عندنا أسبق من القاهرة بخمس دقائق على الأقل، إلا أن المؤذنين والناس قد رضوا بهذا الفرق احتياطاً، فلما تحداهم والدي وأن ذلك مخالفٌ للسُّنَّةِ في تبكير الإفطار صعدوا إلى تل (أبي خَرُوفَة!!) ليقنعوا بذلك، فما أغنى اليقين شيئاً في تبديل عادةٍ رافقتهم زمناً طويلاً...
كان أبي – رحمه الله – عصبيَّ المزاج، سريعَ الانفعال، وتزداد هذه المعُكِّراتُ في رمضان تحت غطاء الحرمان من التدخين، فكُنَّا نتحاشاه في رمضان كثيراً، ونسارعُ في تلبيةِ طلباتِهِ، وتنفيذِ أوامره، خوفاً من صحنٍ طائر يلحق بنا، أو فردَةِ حذاءٍ تَتَـقَصَّدُنَا من بعيد... فكانت الابتسامةُ إذا علتْ وجهَهُ عيداً عندنا... وأيَّ عيدٍ... حَسْبُنا منه الهدوء وطقطقة السبحة بين أصابعه...
بعدما فرغنا من رش الماء على الحائط المنخفض والجُدُرِ التي تحيط بجلستنا، والأرضِ التي تُقِلُّنا، وضعنا (الطبلية) وتحلَّقْنا حول والدنا حذرين، تختلط علينا مشاعر الفرح والسعادة والتَّقربِ الوَجِلِ، لا سيما وهو الآن يمارس هوايتَهُ المفضلة والتي لا يمارسها إلا في شهر رمضان فقط... عمل السلطة بنفسه... ولا يسمحُ لأحدٍ أن يسلُبَه هذه المتعةَ في الدقائق التي تسبق غروبَ الشمسِ... كان – كما هي عادته في كل عام – قد زرع عدةَ أحواض من عُشب الأرض: النعنع، البقدونس، الجرجير، الفجل، الكُرَّاث، الشَّبَت، منذ بداية شهر شعبان استعداداً لرمضان، فَيَـقُصُ – بنفسه – سطراً واحداً من كل حوض، ويُعْمِلُ فيها سكينَه خَرْطَاً وتَنْعِيماً، ثم يُتْبِعُها بالطماطم والملح والليمون، وكانت عيونُنا معلقةً بشفتيه، فإذا أصدر أمراً سارعنا نركضُ لتلبيته خوفاً من غضبه المفاجئ. المبرر عنده بالصيام والحرمان من التدخين منذ الفجر، لعنةُ الله على هذه العادةِ السيئةِ، كم عذَّبتنا وخوفتنا صغاراً، وقضت عليه كبيراً.
يفرغُ والدنا من عمل السَّلَطَةِ... يُقَلِّبُ محتويات الصَّحْنِ الكبير بِفَخَارٍ وإعجاب.. رائحة الماء إذا اختلط بالطين على الأرض والجدران يُعَبِّقُ المكان برائحةٍ غريبةٍ أصبحت في أنوفنا من روائح رمضان التي تعلق بالذاكرة.
جلسنا ننتظر مِدْفَعَ الإفطار من إذاعة القاهرة... الشيخ محمد رفعت – رحمه الله – بصوته الرَّخِيمِ المُمَيّزِ، وخَشْخَشَةِ الأسطوانة المُرافقةِ لصوته الحنون يُعطي رمضان نكهةً مميزة... الوالد هادئ مثلنا... يطقطق بمسبحته يستغفر الله... الصمتُ يخيم علينا... السكون يطبع جلستنا... ننظرُ إلى شفتيه... نُقلده في الاستغفار... لكن لا ندري من أي شيء نستغفر!! تجرأتُ وسألته:
- يا أبي... ما قصدك بأستغفر الله؟
نظر إليّ... رأيتُ الحيرةَ في وجهه... ثم ابتسم... الحمد لله!! لن أُعاقب على سؤالي... جاءني صوته:
- يعني: يا رب سامحني...
- يا أبي... يُسامحك لماذا؟!
- لأنه رَبُّنا...
- ماذا فعلت حتى يُسامحك؟
تغير وجهُهُ... اغْبَرّ... انْكَمَشَ جسدي... تصاغرتُ... ليتني ما سألت؟!... عادت أساريرُه للانبساطِ مرة أُخرى، لكنها مع زفيرٍ مكظومٍ هذه المرة:
- "كل ابن آدم خطّاء، وخيرُ الخطائين التوابون"هكذا نقل إلينا الشيخ محمد نجم – رحمه الله – شيخ مسجد"اسدود"ونحن صغار، ومنذ ذلك اليوم ونحن نستغفر...
- وهل أستغفر أنا أيضاً؟
- نعم استغفر.
- لكنني ما فعلتُ شيئاً!!
- كيف... ألم تقتلْ العصفور بِنَـبَلَتِكَ؟! استغفرِ الله من ذلك...
أستغفر الله من نَـبَلَتي... أستغفر الله من نَـبَلَتي... أستغفر الله من نَبَلَتي... وظللتُ أردد هذه اللازمة حتى ضرب مِدفعُ الإفطار، وأَذَّنَ الشيخ محمد رفعت من إسطوانة قديمة احتفظوا بها منذ أن كان حَيَّاً... فلما فرغ الأذان... هجمنا على التمر... ثم على الطبيخ فأكلنا حتى شبعنا... بل امتلأت بطوننا... استرخى والدي... أشعل سيجارة... جذب منها أنفاساً ثم زفرها... قام... صلى بنا... فلما جاء الشاي... قال أبي باسم الثغر:"رمضان قُوطر... باقي فيه عشرتين وتسعة"!! يُحَاكِي لهجة البدو الأَقْحَاحِ، وقد كان يُتقنها... لكنها عندنا علامة على انْبِسَاطِهِ وسلْطَنَتِهِ، مما كان يشجعنا على طلب رغباتنا المؤجلة، المدفونة في أعماقنا حتى نرى شآبيب رضاه فنخرجها آملين.
لم أكن أفهم معنى (رمضان قُوطر) لكنه استقر في خلدي أنه غَذَّ السير سريعاً إلى الانتهاء، وطالما مضى يوم منه فَقُلْ: عليه السلام... لأنه سيمر دون أن نشعر بوطأة الجوع أو العطش...
كان أبي – رحمه الله – يردد هذه الكلمة كل ليلة... منقصاً منها يوما (عشرتين وثمانية) (عشرتين وسبعة)... لا بل بقي يرددها طوال السنوات التي عشناها معه قبل أن يجذبنا الرحيل وتمتصنا الغُربة... وتذيبنا تكاليف الحياة... وتستنفذنا الأُسر الجديدة التي وُلدت... كان ذلك منذ خمسين عاماً.
كان أبي – رحمه الله – يريد أن يخفف عنا مشاق الصوم بهذه الكلمة ويشجعنا على الصبر، مع أنه كان يغمز أمي بطرف عينه لتصنع لنا غداً طعاماً شهيَّاً لا تقاومه عزائمنا... فيدفعنا إلى الإفطار... فكانت فطائر السكر والقرفة والسمن البلدي، ونار حطب القطن في فرن الطين تغزو خَيَاشيمنا منذ الصباح الباكر... نقاوم... نقاوم... لكن سُرعان ما تضعف عزائمنا وتتلاشى إرادتنا... فنختلس لقيمات منها لا تلبث أن تُعلن عن إفطارنا، فلا نجد مفراً من أكلها علناً في ظل ضحكات أمنا وسرورها، وهي تُـهَوِّنُ علينا الأمر، وتدفعنا إلى تَقْسِيط الصيام... كل أسبوع يوماً واحداً... يومين... فندخل في حَرِّ التنافس الذي ستظهر نتائجه الأولية قبل صناعة الكعك بقليل، والذي غالباً ما يكون قبل العيد بيومين أو ثلاثة، فإذا ما كان العيد وتهيأنا بالثياب الجديدة لأخذ (العيدية) من الوالد بعد تقبيل يده عرفنا نتيجة المنافسة النهائية، فنفاخر برصيدنا الذي كان مُتَساوقاً مع أعمارنا، فهذا صام عشرة أيام، وذاك سبعة، وذلك خمسة... والصغار أنصاف أيام وأرباعها... يضحك الوالد... يتجاوز تشجيعاً فيقول: أنت مجموع ما صمت يساوي يومين، وأنتِ يساوي ثلاثة... نُسرُّ بالنتيجة متوعدين بعضنا بعضاً برمضان القادم، الذي لن نقبل فيه بهذا الرصيد الهزيل...
عَنَّ لي – بعد إفطار أول يوم – أن أسأل أمي عن موعد عمل الكعك!... ضحكت وقالت: ما زال الوقت مبكراً... آخر الشهر إن شاء الله... تذكرتُ العام الماضي عندما أيقظتني – بعد إلحاح شديد مني – لحضور عمل الكعك، وتركت أخي الذي يَصْغُرني نائماً... صحيح أنني شاركتُ في نقش واحدة أو اثنتين منها مراضاةً لي أو كما قالت أمي: "من نِفْسي" لكنني في اليوم التالي تطاولت على إخوتي الصغار متفاخراً أنني أصبحت رجلاً يمكن أن أستيقظ في الليل الدامس ولا أخاف، ويمكن الاعتماد عليَّ في المُلِمَّاتِ، فقد أوكلت لي أمي نقش الكعك!! هكذا بتعميم مبالغٍ فيه، وأعلمتهم بأنني رأيت المسحراتي، مع العلم بأنني خفت أن أخرج إلى الشارع، فقد كانت ليلة الثامن والعشرين من رمضان حِنْدِسَاً من الحِنَادِس الثلاث، فاكتفيت بأن أُطِلَّ براسي من خَوْخَةٍ في الباب الكبير، وسمعتُ صوت الطبل، وأقنعت نفسي بأنني رأيت المسحراتي، وليموت إخوتي الصغار بغيظهم، وعليهم أن ينتظروا صباح العيد ليروا المسحراتي في وضح النهار عندما يأتي بطبلته لجمع الكعك من البيوت أجرةً لإيقاظهم طوال الشهر الكريم... وليلتفوا حوله كسائر الصغار... أما أنا فقد تميزت عليهم...
غضب إخوتي مني... بكوا بحرقة المهزوم... تشاجرنا... علا صُراخُنا... وقد امتدت أيدينا في حَنَقٍ مكظوم... ترافسنا... كادت أثوابنا تتمزق بين أيدينا المتشجنة... هبَّ والدي من نومة القيلولة مذعوراً... ما هذا؟ ما الذي حدث؟! قالت أمي بِحَنَقٍ شديد وهي تحاول فك اشتباكنا: كُلُّهُ من مقصوف الرقبة... حَسَّر إخوانه فتخانقوا... قام والدي... تناولني من شعر رأسي بيده اليُسرى وأخذ يَمْصَعُني بحزامٍ جلدي معلقٍ لهذا الغرض على مسمار في رَدْهَةِ البيت، وأنا أنزو بين يديه وأصرخ... فلم ينقذني أحد... وأكلتُها سَخِينَةً.