هكذا علمتني أمي
أعود خمسين سنة أو أكثر إلى الوراء فأراني في جامعة حلب ، كلية اللغات ، فرع اللغة العربية عائداً وصديقي أحمد من الجامعة قبيل أذان العِشاء فننزل من الحافلة في حي الجميلية عند جامع الصدّيق ، أو قلْ :عند الفوال المشهور أبي الحسن ، فقد كنا جائعَين، لم نتغدَّ وكان فوله طيباً يدعو أهلَ الحي وطلابَ الجامعة إلى ( التفوّل) دون حرج ،فوجدنا أقدامنا تتجه نحوه نردد بيت الفقيه الحموي المعروف ( محمد الحامد) رحمه الله تعالى :
ففول فؤول ، فاحترس من تشاؤم ...وعن حب هذا الفول لا تترددِ
ولن نتردد ، فهو لذيذ الطعم رخيص الثمن ، وما ينتظر طالبُ الجامعة غير ذلك؟.
ركبنا الحافلة ( الترامواي) بعد ما أكلنا. ويبدأ خط سيرها إذ ذاك من حي الجميلية غرب حلب إلى حي السفّاحية أمام الثانوية الشرعية ( الخسروفيّة) نسبة إلى بانيها الوالي العثماني خسرو باشا، وكان خط الترامواي يمر في باب الفرج ثمَّ جادّة الخندق مروراً بباب النصر ثم باب الحديد ،فينثني نحو اليمين بخط طويل فيصل المدرسة الشرعية ، وهناك بيت أحمد ، أما أنا فسأنزل في منتصف الطريق جنوباً إلى سبع البحرات ،ثم الجامع الكبير،وفي سوق المدينة بيتنا بعيداً عن الأحياء السكنية.
كان بيتنا يشرف على ( قبلية الجامع الأموي الكبير) وأسطحةِ الأسواق والخانات المنبثة في الأسواق القديمة،فلا ترى في مدن العالم أسواقاً منسّقة لكل بضاعة كأسواق حلب ،فهنا سوق القماش( الشام) وهنا سوق الذهب وسوق العطارين وسوق العباء والقطن والخضار ووو ..نعم، لن ترى مثل أسواق حلب مطلقاً ، لقد زرت العالم كله تقريباً فكانت أسواق مدينتي مثالاً للنظام وجمال الترتيب. وترى بيتنا بعد إغلاق وسط المدينة نقطة منيرة في ظلام الأسواق حولنا ،فالتجار ينصرفون بعد العصر بساعة أو أكثر قليلاً إلى منازلهم فلا تلقى في تلك المنطقة سوى بيتنا في الطابق الثالث أما الطابق الثاني ففارغ لم يؤجّره جدّي بعدُ ،وفي الطابق الأول قهوة (الكمّيني) تُغلق حين ينصرف الناس إلا أنها تعمُر بجمع النساء في أعراسهنَّ يوم الخميس ليلة الجمعة في الأيام المعتدلة، والصيف.
وصلت البيت بعد العِشاء بقليل لأجد والدي وإخوتي الصغار - فأنا أكبرهم- نائمين أو متناومين ، فأسأل أمي عن السبب فتجيبني: ليس عندنا خبز ولا عَشاء والجميع جائعون ، فأحببنا إسكات جوعنا بالنوم..
كان والدي رحمه الله غنياً ويسمى شيخ سوق الخيش وكبيرَه ،لكنَّ بعضهم ممن ظنهم أصدقاء سوّلوا له أن يشتري إذ ذاك ثلاث شاحنات يعملون بها وسجلها بأسمائهم لتكون حركتهم سهلة ، وفعلاً كانت حركاتهم سهلة في سلب هذه الشاحنات! تملـَّكوها ، ثم جحدوها لينقلب والدي فقيراً يبدأ طريقه من جديد . والحقيقة التي أشهد بها أنني لم أسمعه مرة يسبُّهم أو يدعو عليهم إلا بجملة واحدة يذكرها كلما طفح كيلُ ألمه وحزنِه ( أشكوهم إلى الله). وكانت نهاية هؤلاء الثلاثة سيئة في الدنيا قبل الآخرة.
ارتميت في فراشي تحت السماء – فقد كنا في حزيران - أبكي فأنا الوحيد في اسرتي ممتلئ المعدة ، وكان ينبغي أن أكون مثلهم، هكذا علمتني أمي ،أن أحس بشعور أسرتي فأجوعَ إذا جاعوا واشبعَ إذا شبعوا. ولا أرضى لنفسي التميُّز عنهم ، بكـَيت كثيراً إلى أن هدأتُ وأغمضت عينيَّ منطلقاً في عالم الغيب الذي تغيب فيه الأرواح عن الأشباح ..
في اليوم التالي أخبرنا أحمد أن والده دعا رجالاً إلى غداء ، ورغب أن يدعوَنا ابنُه بعد العودة من الجامعة إلى العَشاء ، وكان أحمد واحداً من ستة أو سبعة تؤلف مجموعة متفاهمة متآلفة ، ولم يكن بُدٌّ من الإجابة إلا أنني - وقد تألمت أمسِ أن أكون شبعان بين أهلي – عزَّ عليَّ أن أعود وقد أكلت ما لذَّ وطاب وأهلي يتضورون جوعاً ، فماذا أفعل يا رب ؟! لقد عزمت أن أعتذر، وفعلتُ .غيرَ أن الرفاق استنهجنوا اعتذاري ، ولهم أن يفعلوا ذلك، فالعَشاء يفتح لنا باب اللقاء المرِحِ بعيدا عن جوِّ الجامعة بين أناس ذوي مشارب مختلفة يُحتِّم علينا بعض القيود الاجتماعية ، لقد أبى الجميع اعتذاري ، وأظهروا امتعاضهم لكنني حزمت أمري ونزلت من الباص عند الجامع الأموي خلسة منهم ، فمشى الباص وسمعتهم يلغطون غاضبين ،
وصلت البيت لأراهم في فُرشهم كما كانوا الليلة الماضية فلما نظرت إلى أمي رحمها الله حركَّتْ رأسها ، ففهمت ما أرادت قوله دون أن تنبس به ، وانسللت في فراشي أبكي لانني اليوم أنام مثلهم جائعاً لم يعضَّني ذنْبُ الشبَع كما حصل أمسِ. كان بكائي الليلة دليلاً على رضاي بما فعلت ..
ولعلي كنت في السنة الدراسية الجامعية الثالثة ، وأدرِّس مادة اللغة العربية في إعدادية سيف الدولة في حيِّ ( الفرافرة) وإعدادية الثأر في حي ( قسطل الحرامي) حين قيل لي إنهم يوزعون مكافآت الشهرين الماضيين ، فأسرعت إلى مديرية التربية لأقبض أكثر من ( خمس مئة ليرة) وما أدراك ما خمسُ مئة ليرة ؟ إنها تلك الأيام كنز تشتري به مئة غرام ذهباً ، ألا ترونني غنياً وأنا أمتلك ما قيمته مئة غرام ذهبيّ؟!..انطلقت بها إلى الجامعة ، لأحضر الدوام فقد كان إلزامياً ولا يُسمح للطالب أن يؤدي الامتحان في الدور الأول إذا لم يحقق ستين بالمئة من الدوام الفعلي.
وفي طريق العودة نزلت في المنشية القريبة من باب الفرج ودلفتُ منها إليه ، فهو لبِّ المدينة إذ ذاك لأشتريَ كل ما يخطر ببالي من طعام وشراب ، سأوقظ أبي وإخوتي ونسهر، وننسى أيام الجوع والحِرمان، وستكون ليلتنا طعاماً وشراباً وابتسامات ، وركبت السيارة تسرع بي إلى بيتنا ..
أمي ، يا أمي ؛ ايقظي أبي وإخوتي . وأدخل حاملاً ما لا أستطيع حمله وحدي في غير هذه الساعة ، وتبتسم أمي وتدعوهم جميعاً وقد كانوا يتقلبون في فُرُشهم ،فيقفز الصغار وتعلو اصواتهم وتُضاء الأنوار ، ويجلس والدي بين الرضا والابتسام ..
كانت دموع أمي تملأ وجهها الجميل وهي تدعو لي ، وكان إخوتي وأخواتي يمرحون ويضحكون ضحكاتهم الطفولية البريئة وتعلو أصواتهمُ ابتهاجاً وتشرق وجوههم سعادة ،وكانت عينا والدي رحمه الله تَبْرُق باحمرار فالرجال يتأثرون ولا يبكون..... وكانت ليلة من أطيب الليالي ....
وسوم: العدد 843