الفتوه
السيد الرئيس الفاضل
رجب طيب أردوغان
انتظرتك طويلاً يا أخي
وها قد جئت أخيراً
أستحلفك بالله
أن ترسل بشائر رسلك
إلى عتبة داري
كان صوت طرقعة الملاعق الألومنيوم الصغيرة الصدئة في قلب أكواب الشاي الزجاجية الصغيرة الرخيصة, هو الصوت الوحيد الذي يميز نفسه وسط هذه الجلبة والضوضاء داخل القهوة البلدي الفسيحة, التي اعتدت أن أجلس داخلها, لأحتسي الشاي وأنفث دخان معسل الشيشة عند أول كل مساء.
كل صوت يصدح وينضح, كأنهم جميعاً آلات موسيقية لأُوركسترا غاية في النشاز. بدون أي نية لتحقيق هارمونية. هارمونيته الوحيدة تتحقق بأن تبقى هكذا نشازاً للأبد.
هذا عم (حامد) عند النصبة, غارق داخل قعقعة كل ما يستخدمه من ملاعق وأكواب, وسط المياه الساخنة والمعلبات البلاستيكية بما تحتويه من شاي وقهوة وسكر.
وهذا المعلم (بيشو) الذي يجلس عند الركن الأيسر في عمق القهوة, يتابع العمل بنظرات مختلسة من وقت لآخر وهو ممسك بخرطوم الشيشة الذي التصق بفمه واتكأ على كرشه بجلبابه الكالح. ومن وقت لآخر يخرج صوته منادياً على أحد الصبية, مختلطاً بكركرة الشيشة التي لا تنطفئ أحجارها.
وهذا هو (كيتو) أقدم صبيان القهوة, بصوته المميز الذي صار أقرب لصوت الرجال بعد أن دخل في مرحلة الشباب. وقد كان في غابر الأزمان صبياً صغيراً, أول من أتى صغيراً لهذا المقهى بصوت حاد, رقيق كأنه سكين رفيع غاية في الأناقة.
صوت (كيتو) كان يجلجل بين أركان القهوة على الدوام, كأنه الكابتن هكذا وصفوه
(واحد معسل واتنين شاي على بوسطه وصلحه)
لم يتبق من العاملين إلا أصغرهم, الصبي المعروف ﺑ (السيس), لا أحد يدري يقيناً مَن أطلق عليه هذا الاسم. أغلب الظن أنه المعلم (بيشو) نفسه صاحب القهوة, الذي كان يكيل الصفع والركل (للسيس) عقاباً له على أخطائه الجسيمة وخسائره المتكررة من أكواب تتكسر مع مزهريات الشيشة الزجاجية, هذه الأخطاء التي كانت تُظهرما استخفى من غلاظة فكره وتفكيره.
كنت أشفق على (السيس) من صفع وركل المعلم, ولكن عندما وجدتُ أن (السيس) لم يعد يبالي بكل هذه الصفعات والركلات, حتى من زبائن القهوة الذين تجرأوا عليه بنفس الطريقة, لم أعُد أهتم (بالسيس) إلا عندما أنادي عليه لأطلب كوباً من الشاي أو شيشة, وغالباً ما كانت تتكسر وتتحطم وهي في الطريق إليّ.
كان صوت التحطيم والتكسير يتداخل مع أصوات (السيس) نفسه, القريبة من أصوات الفتيات البِكر اليافعات, خاصة عندما يبدأ الركل والصفع بعد أيّ شيء يتكسر.
وكآلة الكونترباص المميزة بغلاظة صوتها في أيّ أوركسترا ودخولها المفاجئ الدائم للتيمات الموسيقية بدون استئذان, كانت أصوات أحجار الدومينو وهي تصطك على الطاولات كأنها كرات ثلجية ثقيلة تنهمر من بلاد الإسكيمو.
ثم صوت الراديو الذي لا يتوقف نزيفه الصوتي بكل الأغاني القديمة لتلك المحطة الإذاعية الشهيرة بإعادة كل ماهو قديم من موسيقى عتيقة.
ثم يغلف كل هذه الجلبة الضوضائية, أصوات الزبائن وهي تضحك وتنفعل وتلعن وتطلب ما يمكن شربه أو تدخينه, وسط التعليقات على كل ما هو جديد في حياتنا اليومية من سياسة ورياضة وإشاعات تطول الشخصيات العامة كالأخبار الصفراء التي تأتي من صحف صفراء.
باختصار؛ كان صخب الزبائن الذي لا ينقطع هو بمثابة جوقة كبيرة لآلة الكمان تغلف اللحن, وتحد له حوافه الذي لا يجب أن يتعداها.
لعل الصوت الناشز الوحيد الغير متناغم وسط هذا اللحن المفتعل, الناشز من الأصل, لعله صوت كركرات الشيشة أو مجموعها كلها داخل القهوة, كأصوات فقاعات هواء عملاقة تصعد من أعماق المحيط, وتحمل فوق غشائها الرقيق أسلحة نووية.
ومع كل هذا الصخب والجلبة والضوضاء التي تميز قهوتنا, فإن مسرح الأحداث لأيّ حدث جديد يقلب سكون روتين هذا المشهد ويعبث به, ويتحول بقدرة قادر سكون روتين الضوضاء إلى انفجار. رغم الهدوء الذي يقطع روتين الصخب.
وكان من ضمن هذه الأحداث, حدث مهم جلل, يتكرر من وقت لآخر. وعندما يبدأ في الحدوث نحبس أنفاسنا ونبلع ما تبقى من لعابنا, وننتظر المصير. ألا وهو ظهور المعلم (راسبوتين).
ومع سماع أصوات جلبة من نوع جديد, ارتطام وتكسير, وحدث ما كنا نخشاه ولا نتمناه. ظهر المعلم (راسبوتين) ومعه أربعة من رجاله أو حراسه الشخصيين. ماتت هارمونية الصخب والجلبة وأطبق على المكان صمت رهيب يخنق أنفاس الصخب.
كان ظهور المعلم (راسبوتين) في أي مكان يعني الهلاك والرعب, الذل والإذلال ودفع الإتاوة بعين كسيرة ورأس منحنية. كان هو الفتوة الذي لا نعرف من أين يأتي ولا إلى أين يمضي. كان قصيراً, مظهره لا يوحي بأي قوة, بشعر أشقر وعينين ملونين. قيل أن له أصول قوقازية, ولا نهرف تحديداً من أطلق عليه اسم (راسبوتين). ربما هو نفسه الذي أطلقه ليشيع الرعب في النفوس لمن يعرف (راسبوتين) الحقيقي ومن لا يعرفه أيضاً. فوقع الاسم له تأثير يفضي إلى الخوف.
كانت أول بشائر قدوم (راسبوتين) هي إظهاره العصبية الشديدة عند دخوله. يركل بقدمه أكثر من مزهرية زجاجية لأكثر من شيشة فتتكسر, ولا يكتفي بذلك, بل يمسك بكوبين أو ثلاثة من أي طاولة تطالها يده ويهوي بها على الأرض. فيحدث التأثير النفسي الذي يطلبه وهو رعب الصدمة مع صوت تكسير الزجاج, ثم يمسك بأول عضو في القهوة وهو أول من تطاله يده دائماً وهو (السيس). يصفعه صفعة قوية يسمع صداها المعلم في آخر ركن في عمق القهوة, فنتأكد تماماً من أنه هو (راسبوتين), خاصة عندما نسمع رد (السيس) المعتاد على صفعته:
- تسلم إيدك يا سيد الناس
ثم بيده اليسرى يهوي بصفعة أقوى على رقبة (كيتو) أثناء مروره بين الطاولات, فيتململ (كيتو) الذي بدأ منذ فترة يُطهر له علامات التذمر والتمرد وعدم الرضا بالاستمرار على هذا الوضع. ولكنه لم يرد على أي حال:
- مساءك فل يا معلم (راسبو)
كان من ضحايا المعلم الفتوة من يناديه ﺑ (راسبو), ومنهم من يناديه ﺑ (بوتين), وكلاهما كان يدلل الرجل رغبة في التقرب والتذلل واتقاء البطش ليس إلا.
انتظر بعض الوافدين الجدد للقهوة والذين لا يعرفون تاريخ القهوة مع المعلم (راسبوتين), أي رد فعل من المعلم (بيشو) صاحب القهوة, ولكنه بالطبع لو يحرك ساكناً وظل في ركنه مكتوماً متقزماً لا يجرؤ على فتح فمه. فعندما يظهر المعلم (راسبوتين) في المشهد, فلا معلم غيره ولا يجرؤ أي معلم أن يرفع هامة. فهو ببساطة – سيد المعلمين.
سيد المعلمين يتهادى بين الطاولات يحطم ويكسر ويصفع هذا بيمينه وهذا بيساره, بعينين باردتين وبصوت خفيض نطق لأول مرة:
(يا قهوة مافيهاش راجل, ولا هيبقى فيها راجل, كل واحد هنا ما دفعش فلوس الشهرية بتاعته يطلعها دلوقتي ع الترابيزة, يالا يابن الكلب منك له)
وعلى الفور وجدتُ أكثر من ثلثي زبائن القهوة يغرسون أياديهم في جيوبهم ويخرجون ما وجدوا, ليضعوه طواعية, بل رعباً على كل الطاولات أمام كل واحد منهم.وبينما (راسبوتين) يسير بتؤده متعمدة وسط الطاولات ليجمع ماله السحت من أمام كل زبون, داس بقدمه سهواً على قدم الأسطى (داغو).
االأسطى (داغو) وافد جديد على قهوتنا, هذه هي المرة الثالثة أو الرابعة التي أراه معنا يجالسنا بدون أيّ تكلُف. رجلٌ طويل بشارب كث منمق يشوبُه البياض, وشعره دائماً مهذب ببياض لامع لافت. يبدو عليه سمت العظماء وشموخ الكرامة وأصول الغر. يتكلم قليلاً, ولكن عرفنا منه أنه صاحب ورشة خراطة وأنه ميسور الحال, فقد ورث هذه الورشة عن أبيه وطور العمل فيها حتى صارت ذات صيت وسمعة طيبة.
الأسطى (داغو) من خارج منطقتنا ولا يعرف بالطبع قواعد اللعبة أو ما تعارف عليه كل من يرتاد القهوة في منطقتنا, هذا من ناحية. ولا يعي تعاملنا أو خضوعنا وانبطاحنا جميعاً أمام (راسبوتين), هذا من ناحية أخرى. هذا بالإضافة إلى علامات الشجاعة وسمت الشهامة وخصائص الرجولة التي وجدناها في شخصيته منذ أول مرة رأيناه. هذه الخصال التي عرفناها بسرعة, ربما لنقصها الحاد داخل كلٍّ منا, أو الحاجة الماسة لنا جميعاً لأن نجدها ونزدردها ازدراداً, ولكن دائماً ما كانت تنقصنا الشجاعة للبحث عنها.
كان الأسطى (داغو) واحداً من قِلة قليلة من زبائن القهوة الذين لا ينهضوا على أقدامهم فور رؤيتهم للمعلم (راسبوتين) داخلاً القهوة, في البداية ظننته خائفاً أو مذعوراً كأغلبنا. لكن أغلب الظن أنه كان يتابع هذا الحدث الجديد بالنسبة له, الذي ربما لم يعتد رؤيته في أيّ مكان آخر إلا قهوتنا.
لكن عندما داس (راسبوتين) على قدمه سهواً أحسست أنا شخصياً بمقدار الألم الذي يمكن أن يحس به الأسطى (داغو). أمسكتُ بقدمي فوراً ليس لتخيلي الألم فقط, بل خوفاً من الآتي. أن ينتبه (راسبوتين) لهذه القدم الكبيرة التي أعاقت طريقه, فيأمر بقطعها على الفور.
يالخيالي المذعور الذي أصابني وأصابنا جميعاً, وجعلنا صرعى لهلعنا على الدوام. لم أفكر ساعتها فيما سيفعله الأسطى (داغو) بقدر ما تخيلت سوء ما سيفعله المعلم (راسبو). لكن الأسطى (داغو) خيّب ظني وفاجأ الجميع. نهض من مقعده بهدوء, وعندما استقام واستقامت كل قامته, بدا طويلاً أمام (راسبوتين) وزبانيته وظهر وسطهم كالعملاق. رفع (داغو) كف يده عالياً وبملء عزم قوته انهال بها على وجه (راسبوتين) في صفعة مجلجلة.
جسدي ينثني وأتكوم وأحاول أن أدفن رأسي في أي من ثنايا جسدي أو أي شيء من موجودات المكان, وكذلك فعل الجميع, كل الموجودون تقريباً إلا قلة قليلة من أمثال (داغو). نحاول كلنا أن نختلس أي نظرة من بين شقوق أصابعنا أو أي ثقب في أسافل مقاعدنا, لنرى الانفجار أو ما بعد المصيبة أو الكارثة التي ستحل علينا جميعاً حتى على كل الجماد الموجود. فوجئ المعلم (بوتين) بما حدث, لم يتوقع أبداً .. أبداً, ولم يمر بمخيلته مطلقاً أن يحدث هذا. حاول زبانيته الأربعة – الذين فوجئوا مثله تماماً – أن يتحركوا أو أن يرفع أي منهم ذراعه الضخم الصلب ليحطم (داغو). لكن (داغو) مدّ قدمه خطوتين للأمام بعينين يتطاير منهما الشرر المتقد, وقبضتين مضمومتين بدا عليهما الاستعداد لمعركة طويلة. وعلى أثر المفاجأة اللامعقولية وإظهار (داغو) لبسالة مجنونة واستعدادٍ للفناء بعد إفناء الآخرين, تراجع زبانية (بوتين) إلى الوراء عدة خطوات وعلى وجوههم آثار خوف حقيقي. أدرك (راسبوتين) ساعتها أن نِصاب الأمر برمته يميل ضده بانحدار حاد, وأنه في هذه اللحظة ذاتها لن يستطيع أن يرد الصاع ﻟ (داغو) لا بصاعين أو حتى بصاع واحد أو على أقل تقدير بنصف صاع, ولكن عليه أن يفعل شيئين في آن واحد. أن يُعنف (داغو) بأقصى سرعة ممكنة أمام هذا الجمع أولاً, وثانياً والذي والذي هو مرتبط بنتيجة الأول بالقطع, هو أن يحفظ ماء وجهه وهيبته التي تبعثرت في غمضة عين. نظر إلى وجه (داغو) الذي بدا أمامه كعملاق يكاد يسحق قزم أمامه, وافتعل بعينيه غضب مفضوح, ظهر لنا جميعاً أنه زائف مزور, ونطق:
(ليه عملت كده؟, انت غريب عن هنا وماكنتش هاطلب منك فلوس, كنت هتاخد واجبك, وتمشي)
بدا أن ثقة الأسطى (داغو) بنفسه قد ازدادت وعلت, فور سماعه كلمات (راسبو). هذه الثقة التي كنا نراها قوية ومتجذرة من الأصل, فأراد هو الآخر أن يرد, أن ينصب سيركاً بكلماته بعد أن نصبه من قبل بصفعته التي هوت على خد (راسبوتين). بل أننا جميعاً أحسسنا بها كأنه صفعنا كلنا في آنٍ واحد بصفعة واحدة.
قال (داغو):
(ماليش دعوة إنك تضرب واحد وتبهدل التاني وتكسر هنا وهناك, لكن لما تقرب من رجلي قبل ما تخطي قدامها تبقى تبص كويس, لو رجلك داست على رجلي تاني هتعرف شغلك)
بكلمات (داغو) البسيطة أحسسنا كلنا أننا كائنات أدنى, مقارنة ﺑ (داغو), وأنه لو كل منا كانت له الجرأة على قول هذه الكلمات فقط في وجه (راسبوتين) لما فكر ولا مرّ بخياله أو أحلامه أن يكون فتوة, هذا القصير الأشقر ذو الوجه الثلجي.
لم يرد (بوتين) واستمر في إظهار غضبه المسطح كقشرة ذابلة تكاد أن تسقط, رفع سبابته في وجه (داغو) وقال:
(أنا راجع تاني)
وأدار ظهره ومضى هو وزبانيته.
تغيبتُ عن القهوة ليومين متتاليين خوفاً من تسونامي أو تبعات زلزال ما حدث أمام عيني. عرفت ممن زارني أن ثلث مرتادي القهوة قد فعلوا الشيء نفسه. بقوا في منازلهم اتقاءاً لما قد يحدث.
المعلم (بيشو) صاحب القهوة اضطر مقهوراً أن يفتح القهوة حتى لا يطاله أي عقوبات من (راسبو) وجماعته, أو ما قد يحدث بسبب سوء فهم المعلم (بوتين) بعد كل هذا اللغط الذي حدث يومها.
أقسم لي كل من مر على القهوة في هذين اليومين, أنهم رأوا المعلم (بيشو) متكوماً في ركنه يرتجف طول الوقت, ولا يستطيع أن يُكلم أحد بسبب اصطكاك أسنانه, بل أن أحدهم أقسم لي أنه رأى بلل جلباب المعلم (بيشو) من أثر تبوله اللاإرادي.
( أنا راجع تاني ), آخر ما نطق به (راسبو) قبل أن يغادر القهوة. كانت هذه الجملة بمثابة رصاصة باردة أصابتنا كلنا في مقتل, ونكأت جراحنا, وتركتنا هكذا بمصير مجهول لا نعرف نهايته, أو ببساطة ننتظر الكارثة. الشيء العجيب والحقيقي والثابت في الأمر, أن الأسطى (داغو) وبعض من محبيه أو من على شاكلته, لم يتغيبوا عن القهوة, بل واظبوا على الحضور واحتساء الشاي والشيشة كأن شيئاً لم يحدث, أو كأن ما حدث أمام أعيننا جميعاً كان ببساطة مشهداً كوميدياً تابعناه كلنا على تلفاز القهوة.
مضى يومان آخران ونحن ننتظر الانفجار, الكل خائف من أن ينزل من بيته. مجرد أن يترك أحدنا داره فما بالنا بالذهاب للقهوة, ولم يحدث أيّ شيء. لا الأسطى (داغو) غيّر أو تغير في سلوكه اليومي أيّ شيء, ولا المعلم (راسبوتين) قد هدّ قواعد القهوة على رؤوس من فيها كما توقعنا. وبدأ الخوف يتسلل خارج قلوبنا ببطء وبدأنا نشجع بعضنا على الخروج والالتقاء في القهوة, وبدأت القهوة في الامتلاء من جديد بزبائنها المعتادين. عاد المعلم (بيشو) للتحدث مع الزبائن وتوقف ارتعاشه, وتبوله, وبلل جلبابه. كل هذا والأسطى (داغو) بين أظهرنا كل يوم, يضحك ويمازح ويتحدث ويلعب الطاولة, كأن المعلم (راسبوتين) لم يوجد من الأصل في تاريخ قهوتنا.
إلى أن جاء اليوم الذي تناسيناه وكنا من قبل نخشاه. في أحد الأمسيات اللطيفة, والطقس خريفي مائل للبرودة, ونغمات كل الأصوات المنبعثة من القهوة تترى في هارمونية وانسجام حقيقي على غير العادة. فوجئنا بالمعلم (راسبوتين) يدخل القهوة ومن ورائه زبانيته الأربعة, ولكن بدون أي جلبة أو تكسير أو تحطيم كما كان يفعل من قبل.
صمتت القهوة تماماً وبشكلٍ مفاجئ, حبسنا كلنا أنفاسنا, تصببنا بعرقنا في ثوانٍ معدودة. منا من ارتجف ومنا من بال في سرواله كالمعلم (بيشو).
حبسنا أنفاسنا, ووددت ساعتها لو تبخرت واختفيت, أو حتى اختبأت داخل أي شق غائر, وإن كان يفضي إلى الهلاك ذاته.
توجه (راسبوتين) مباشرة إلى طاولة الأسطى (داغو) الذي ظل ماكثاً جالساً يدخن الشيشة في برود, كأنه لم يدرِ أن القيامة قد قامت منذ زمن. نهضنا ومفاصلنا يرتطم كل منها بمفصل الآخر.
وعندما أصبح (راسبوتين) أمام (داغو) مباشرةً, أمر (راسبوتين) رجاله واحداً واحداً, لينحنوا أمام (داغو) ويقبلوا يده. ثم انحنى (راسبوتين) نفسه وأمسك يد (داغو) وقبّلها, وعندما رفع جبينه قال بعينٍ مكسورة:
(من النهارده كلنا رجالتك يا معلم (داغو), يا سيد المعلمين).
وسوم: العدد 886