ما عاد الأمر سرّا
أجل ما عاد الأمر سرّا ، فبمجرد إلقاء نظرة سريعة على اقتصاد أي دولة تعيش حربا ، فإن نتائج تلك الحرب تلقي بآثارها على أبناء مجتمع تلك الدولة . وتظهر جليّا في عدة مهن أنتجتها حاجة الناس ، وصراعهم اليومي مع شظف العيش ، وحاجة الأسر إلى القوت واللباس وغير ذلك من متطلبات المعيشة اليومية لأجل البقاء . وكما أجبرت الحرب الناس على إيجاد بعض المهن داخل مدنهم ، أرغمت آخرين على الهجرة وترك الوطن ، ربما لانعدام الأمن ، وربما لقلة فرص العمل ، وربما لحاجات أخرى تداعب مخيلة هذا المهاجر أو ذاك . وربما كان السفر فرصة عظيمة يجب اقتناصها لبداية جديدة ـــ هكذا يظن بعض المهاجرين ــ
وهنا تقف في منتصف الطريق فرصٌ أخرى لآخرين ، تصنع منهم سماسرة للسفر ، وهذه الفرص يملأ حيويتها الجشع والكذب وسوء الأخلاق ، فمنهم مَن يخدع الناس ، فتُدفع لهم الأموال الطائلة من أجل الوصول إلى دول المهجر ، ويزيِّنون لهؤلاء المخدوعين فتنة المهجر وما فيه من مكاسب ، والنتيجة يُفقد هؤلاء من (عرصات) السفر ، وقد أخذوا أموال الناس ، تلك الأموال التي كانوا بأشد الحاجة لها ، ولكنها ضمائر السماسره التي ماتت ، وما عادت تملك ولو القليل من الأخلاق أو المروءة .
ناهيك عن خسة تجار ما يُسمَّى بالمساعدات الإنسانية ـــ و شر البلية مايضحك ـــ فبعد ما آل إليه حال الشعب بمرور سنوات الحرب ، ظهرت بكثرة جمعيات خيريه ومنظمات إنسانية لمساعدة المنكوبين والمهجرين النازحين من ضحايا الحرب . ولكن مايحدث أن تلك المساعدات غالبا ما تخطئ هدفها فتصل لمن يقوم ببيعها بأسعار تنافس السوق! نعم هناك من يتسوّل بأسماء النازحين ليحصل على ربح مؤكد وبأسهل الطرق ، هـم حصلوا على المال بل والمال الكثير ، وفجأة نهضوا من فقر قبيح إلى غنى أشد منه قبحا ، وهوغِنى مبهم بل وأصبح باستطاعتهم شراء ما يعجز الأغنياء عن شرائه كما لو أنهم يريدون توضيح معنى وحقيقة : (صرنا زناكيل ) .
إنها الحرب رغم أسبابها و ويلاتها ونتائجها المريرة ، ولكنها كانت فرصة ثمينة لآخرين ، ممَّن فقدوا معنى إنسانيتهم ، فاعتمد بعضهم على الحوالات الخارجية ، والبعض استفاد من أزمة الحرب واستغلها بكل ما أوتي من قوة/طاقة/قدرة... في تجارة السلاح إلى تجارة الأعضاء إلى تجارة التعفيش.. وغيرها الكثير والكثير ، بكل ما أتاحت له الحرب، ويسّرت له الظروف . إنها كارثة ربما كانت أشد مرارة على الشعب من مرارات الحرب التي تأكل الأخضر واليابس .
رسالتي إلى الأثرياء الجُدد ، حديثي النعمة ، الذين تنعموا ــ كما يبدو لهم ــ على حساب شقاء الآخرين ... أقول : إننا نمر بأزمة عظيمة ، وأحداث جسيمة لم نتوقعها ، ولكنها حقبة وستمضي بإذن الله، وليست نهاية الأمة ، رغم سوء آثارهـا وكوارثها وأزماتها التي عايشها الناس ، إلاّ أنها ستمضي ، وستمضي بإذن الله ، وسنسترجع ما فقدناه بقوة وحيوية نادرتين ، وبجدارة قد نُحسد عليها ، هذا يقينا بالله وهذا حسن ظننا به سبحانه وتعالى ، وستبقى الحسرة ــ فيما بعد ــ تؤلمنا تلك الحسرة على أبناء جلدتنا الذين استغلوا ظلمات الحرب ففعلوا ببيوت الناس ومتاعهم وأموالهم الأفاعيل ، وهنا سكبتها دموعا سخينة صدىً لقصة قرأتها عن أهل النمسا حين اجتاحت الجيوش الإنكليزية بلادهم أثناء الحرب العالمية ، قرأت : (((قيل إن الذي يسرق وطنه مستعد لسرقة قبر أمه وأبيه ، ففي عام 2003م ، أُوفدتُ لدورة تدريبية في فيينا لمدة 14 يوماً ، وكان المشرف علي الدورة التدريبية دكتور "كرينكل" و هو نمساوي من مدينة سالزبورغ ، وكان عمره تقريبا 73 سنة ، أي أنه عاصر الحرب العالمية الثانية و كان شاهداً علي احتلال النمسا من قبل دول الحلفاء. وفي منتصف مدة الدورة ، دعانا لزيارة متحف التاريخ النمساوي في وسط فيينا ، وعند ذهابنا للمتحف ، ذهلنا بما رأينا من تاريخ الأباطرة والأمراء والملوك النمساويين ولما يحتويه المتحف من أشياء لا تقدر بثمن وهنا ، سألت "د. كرينكل" إن كانت هذه الأشياء حقيقية أم تقليد للأصل . فاستغرب لسؤالي ثم قال : لماذا تسأل ؟ قلت له : لأني ملم بالتاريخ . وأعرف أن الحلفاء إحتلوا فيينا ، وأنه أصابها من الدمار المتعمد ما أصاب برلين ، وأن الحلفاء دمروا متعمدين المتاحف ، ونهبوا المدينة ، ضحك وقال لي : أنت علي حق ، ، فعند دخول البريطانيين فيينا ، دمروا و نهبوا كل شيء ، و نالت فيينا عقوبة انضمامها إلى الحرب مع ألمانيا . ولكن عندما أكمل حديثه عما فعله سكان فيينا لحماية ثروات بلدهم ، سالت دموعي دون إرادة ، وأنا أقول :ياويلاه ويا أسفاه على أمتي . قال : في الليلة التي عرفنا أن البريطانيين سوف يدخلون فيينا ، ذهب كل أهالي فيينا كباراً وصغاراً إلي البنوك و المتاحف و مؤسسات الدولة ، وكل شخص أخذ ما قدر علي أخذه من الذهب و الأموال والتحف والآثار والوثائق و منها كانت جوهرة للإمبراطور النمساوي و صولجانه ومهد ابنه ، وهي قطع لا تقدر بثمن اليوم بالإضافة إلي سبائك الذهب ، و كميات ضخمة من الأموال ، قال "كرينكل" : أخذناها قبل أن ينهبها الجنود الإنكليز وكان ذلك عام 1945وبعد إنتهاء الحرب ونيلنا استقلالنا عام 1955 ، بدأنا ببناء بلدنا من جديد فقام ، "وهنا بيت القصيد" ، كل شخص بجلب ما أخذه وأعاده للبنوك والمتاحف والمؤسسات العامةوالخاصة . وبذلك ، أعدنا بناء بنوكنا و متاحفنا و مؤسساتنا من جديد ، ولم نخسر أي شيء من تاريخنا وثرواتنا ، وتم إعمار بلدنا من جديد، عشر سنوات عجاف ، كانت البلد تحت احتلال أجنبي ، ولكن هذه التحف والأموال كانت محمية بكل عناية في بيوت الناس ولم ينقص منها شيء بالتعفيش والتهريب , بل تمت إعادتها كاملة لمؤسسات الدولة وللبنوك وللمتاحف ، كما كانت دون نقصان . بعد كل هذه الفترة العصيبة والطويلة هل عرفتم الآن لمن ستكون البلد ؟ البلد الذي يتم سرقة بنوكه و متاحفه وآثاره و مؤسساته ومعامله من قبل حثالة أهله ، وبيعها وتهرببها للخارج ، لا تأمل من هؤلاء الخير حتي وإن أصبحوا من أصحاب الملايين أو حتى المليارات . فالذي يبيع تاريخه وتراثه و آثاره ، هو مستعد أن يبيع للعدو الأجنبي سيادة و إستقلال بلده . و حرية أهله وكرامة شعبه ودماء شهدائه بثمن بخس . هل عرفتم لمن ستكون البلد عندئذ ؟ ستكون بلا شك : للحرامي ، وقاطع الطريق ، وضعيف النفس ، وعاشق المنصب ، الذين يشعرون بالنقص ) .
اللهم اكشف الغمة عن بلدنا هذا خاصة وعن جميع بلاد المسلمين.
وسوم: العدد 892