إنها نجاة
كانت دائما بعيدة عمن حولها ، رغم قربها منهم ، ورغم أنها ملتصقة بهم كحبات عنقود العنب . ولكن لا أحد يعرف مايدور في داخلها ، تخالطهم وتشاركهم أفراحهم وأحزانهم لكنها لا تقتحم شؤونهم ، ولا تكثر الأسئلة عليهم ، ولربما لأن حياتهم لاتعنيها بشيء ، ولا تهتم كثيرا بشؤونهم العامة ناهيك عن الخاصة . ففي حياتها أسئلة كثيرة ومن واجبها البحث عن إجابات لها ، إجابات مقنعة/منطقية ، وذلك خير لها من الخوض بحياة مَن حولها ، كانت كمَن له قضية أخرى. تختلف تماما عن طبيعة حياة هؤلاء ، ومختلفة فلا شأن لأحد منهم بها ، بل لم تحدثهم عنها .
تمر الأيام ثقيلة ، وهي تعاني ، و تنتظر بصبر هطول ما تبحث عنه وتسعى من أجله. فأينما حلّت وجدت نفسها مجبرة على الوقوف/الصمود لكنها آمنت وأيقنت أن لها وليا يدبّر أمرها وكما قيل :
(وما كان في عينيك صعبا مناله ... يسير على ربٍّ له الكونُ يخضعُ)
استطاعت (نجاة) وقد كان لها من اسمها نصيب أن تتخطى كلّ ما وقع عليها أثناء زواجها ، وبعده من ( يزن ) ، وارتأت أن تتصالح مع نفسها أولا ، وأدركت أنها تصرفت بوعيٍ في تلك الفترة العصيبة ، وأن أخطاءها لم تكن إلاّ رداءً كان يجب عليها أن ترتديه ، و ظنت أنه يناسب تلك الظروف ، وها قد استطاعت خلعه والتخلص منه، هي الآن بوعي وإدراك جديدين مختلفين عن سابق ماكان من تصرفات . لايهمها ما احتفظ به الناس في مخيلتهم/ذاكرتهم عنها ، فماعاد إرضاء الناس يهمها كثيرا ، ولم تعد تبرر لمَن حولها طوال الوقت قراراتها أو اختياراتها ، هي ليست أسيرة لهم ولا أسيرة لماضٍ كان مقدرا عليها أن تعيشه . ولعلها كانت تنتظر سفينة النجاة ، وَتَمَكَّنَ نورُ هذا الانتظار من وعيها ، وكأنها اتخذته عهدا لن تحيد عنه . وموعد مرور تلك السفينة اطمأن إليه قلبها ، بل إنَّ مشاعرها المتوهجة بحيوية نسائم الفرج مازالت تعد العدة لاستقبال إشراقة ذلك اليوم السعيد ، لم يجرؤ الشك أن يجوس مغانيها الربيعية التي كانت تتفيَّأ ظلالَها ، ولا تعنيها المفردات القاسية التي تمر أمام صمودها ، فما أقلقها معنى الريب ، ولا أشجتْها عناوين الكآبة ، إنه القلب المطمئن إلى نصرة الله لها ، وإنها النفس التي قاومت كل إغراءات الشيطان و وسوسته . وتلك هي ذاتها التي لم تؤذ أحدا ، ولا تستسيغ ظلم الآخرين . وربما كان لأخيها ( صالح ) الأثر الكبير في تقويم سيرتها منذ نعومة أظفارها . وقد غاب عنها وما زال في بلاد الغربة ، ولكن رسائله لم تنقطع عنها ، ولم تكن تعرف سر سفر زوجها( يزن ) إلى غيرِ ديرة أخيها في غربته ، ولقد ذهب وهو يعاني من قبح سريرته ، ومن أجل تصرفاته كانت معاناتها ، وكانت تعالج تلك المعاناة بحكمتها و وعيها . وكانت تتدرع بالصبر الجميل ، والصبر على المكاره من حسن اليقين وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى كما ورد في الأثر الشريف . والصبر نصف الإيمان ، وتلك قيم تلقتها من أخيها الصَّالح( صالح ) ، وكان له من اسمه أيضا أجلى نصيب .
واليوم وصلتها رسالة من أخيها البار صالح ، يطمئنها عن أحواله ، وضمَّنها بشاراتٍ لم يعلن عنها ، ولم يفصح عن فحواها . فأيقنت أنها بشارة سارة فأخوها لايهتم إلا بالمهمات من الأمور . لقد أيقظ ضميرها فكان ضميرا حيًّا ، وأوقد مشاعرها على يقظة قلب لم يغفل عن ولوج باب الله عند الملمات . كانت تسأل الله ويأبى قلبُها إلا يوقن بأن الله قد استجاب دعاءَها ، ولقد جاء في الآثار المقدسة في هذا الشأن : أنِ اسألوا الله وأنتم موقنون بالإجابة ، وما أجمل أن يظن بربه خيرا ، فالله سبحانه عند ظن عبده به . فلا يأس ولا قنوط ولا تذمر ، بل السكينة التي تملأ قلب ( نجاة ) الزوجة المؤمنة الصالحة .
ويُطرق باب بيتها صباح يوم مشرق جميل ، فقادتها مشاعرها إلى باب الدار ، وقبل أن تسأل مَن بالباب ... إذ بصوت ( صالح ) يسبقها : أختي نجاة أنا أخوك صالح . فتحت الباب فاستقبلته بمودتها وصفاء طويتها قائلة تفضل يا أخي الحبيب ، وأرادت أن تغلق الباب ، فأمسك بطرفه صالح وقال لها ، رحِّبي بالضيف الجديد ، قالت مَن ؟ فأطل زوجها ( يزن ) وهو يقول : أنا أنا زوجك ياعزيزتي !!! كان الموقف يدعو إلى العديد من الأسئلة ، وإلى العديد من الإيضاحات ، وأخوها ( صالح ) يعرف كل شيء ، ويعرف ماطرأ على زوجها ( يزن ) ، فألقى في سِفرِ وعيِها خبايا أيام خاليات بينه وبين زوجها ، فاستقبلتها راضية ، وكأنها كانت تجلس معهما في غربتهما ، فتسمع وترى كل الأمور .
وسوم: العدد 907