لَعَلَكُمْ تَقْرَؤون
علي هلال شحاته عجيز
جَلسَ - عند أحد الحوائط الرطبة - إلي طاولتهِ الخشبية المتهرئة ؛ التي اتخذتْ منها بعض الحشرات مَفرا ً من برودة كانون الأول . كَانت قطرات المطر تَزوره مرة تِلو أخري من تلك النافذة الحديدية , تَصْطحبُ معها رياح البحر الباردة , مما جَعل يده تَرتعش مثل يَد مُسن , فَأشعل ما تبقي لديهِ من تلك الشمعة المحتضرة ؛ لعلها تُعطيه بعض الدفء الذي يَفتقدهُ , مَد يده إلي أحد الكتب التي اعْتَاد أن يَقرأها , اخْرَج من بين صفحاتهِ البالية سيجارة من النوع المحلي , أشعلها , واخذ يُدخن .
كان مِذاق السيجارة سيئاً جداً . فأشتدَ غَضبُه من سَجانه ؛ ذلك البَدين الجَشع المُتسلط و المستَغِل , الذي يُلبي مَطالب السُجناء مُقابل المال , ولا يَجلب لهم غير الأشياء ذات الثمن البخس , كذلك فقد تَمثَل السجان بالنسبة له كحاجزٍ بَينه وبين حُريته , كان يَود لو فَر من مَحْبَسِه وسَجانه ليذهب بعيداً كَي يَبدأ من جديد , فلطالما راودَته الأحلام حيثُ الأرض خضراء والرمال ذهبية ورائحة الورد تملأ رئتيه بالحياة .
أَنهي سِيجارته السيئة مِثل واقعهِ , وضع غَضبه جانباً مُتمنياً لو وضَع ألامه , جَذب ورقةً بيضاء كَحَياته التي يَنشدها , امْسَك بقَلمهِ الأسود الذي يُشبه مَاضيه , وبَدأ يُسطر رسالة جديدة .
تحية طيبة .. وبعدَ
اكْتبُ إليكم كعادتي ف كل ليلة , اكْتبُ رسالتي الأولي بعد الألف , وانأ ها هنا في زنزانتي الفردية رقم ( 1196 ) . إنني اشْعرُ بالوحدة والضجر رغم أنها عشية عيد الميلاد, و لكن كل ما حولي لا ينبض بالحياة ..
إليكِ : رُغم الشيب في رأسي إلا أنني احِنُ دائماً إلي أحضانك , فلو مَنحوني لاخترتْ أيامك . ما زلتِ مَليكتى الأولى يا أمي , و ما زالتْ تجاعيد وجهك محفورة في ذهني , فدائما وأبدا ستظلين في قلبي .
إليكَ : لم أر في حياتي بطلاً سواك , و لا اذكرُ في وجوه الرجال إلا مُحياك , لقدْ وَهن الجسد مني يا أبي , و لكنني اسْتمدُ منك عزمي و قوتي . أعلم بأنني أخطأت , و لكنك أيضا لطالما عَفوتْ .
إليكِ : لقد أخَذتُ مِنك عُمرك والقلب , ولم أمْنَحُكِ غير التعب , ولذلك أشعر يا زوجتي كثيرا بالذنب . أخجل كثيراً من أفعالي ومن نفسي , و لكِ أن تَعلمي أنني نادم جداً علي ما ضاع في أمسي .
وختاما : أودُ تَذكيركم بأنه لم يصلني مِنكم رداً واحداً حتى الآن , ولكن لن أكف عن الكتابة يوما ؛ لَعَلَكُم تقرؤون , فأنا مشتاق جدا لرؤيتكم , وأرغب في الارتماء بين أحضانكم الدافئة , لقد اشتقت إلى زوايا منزلنا , و اشتقت إلي كل جزء من باريس.
تَرك القلم من يده المُرتعشة , وطوي رسالته والدموعُ تملأ عَيناه , ثم أحْضر زجاجة فارغة ووضع الرسالة بداخلها , وألقاها في بحر الشمال .ثم عَاد إلى طاولتهِ ودموعه .