المعطف النبيل

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

عبد الرحيم عبد الرحمن منصور

هذه أول مرة في حياتي أحس أن هناك من يهتم بي. فأتا أعرف نفسي جيدا ، ولكني صرت فجأة حديث الناس ، كل الناس ، فما أكاد أظهر في مكان ، أو أمشي في شارع ، حتى تلاحقني النظرات ،وتتمتم الشفاه ، ولا أكتمكم أني كنت أشعر بسعادة غامرة .

 ولكن الأمر على ما فيه من الطرافة النادرة ، انتهى بي إلى كارثة ، نعم كارثة حقيقية .

بدأت الحكاية مع بداية فصل الشتاء هذا ، ولي مع الشتاء قصص وحكايات تشيب لهولها الولدان ، ولكن لم يسمعها أحد ، ولم تصل أخبارها إلى أي شخص ، رغم أني كنت أحكي وأقول ، وأعرض حالتي في الشوارع والأزقة الضيقة ، حيث تتقاذفني الأرجل ، وتلاحقني الشتائم وعبارات الاستهزاء .

فأنا رجل وحيد فقير ، لا بيت ولا مأوى ولا ما ل ولا عمل ،مع أني في داخلي أحمل كل صفات الإنسان، أو الكائن الحي ، ولولا أن الله عز وجل قيض لي شخصا من أهل البر والإحسان سمح لي أن آوي في قسم منفصل من زريبة أغنامه ، لضج الشارع من شخيري في الليل ، وشكواي في النهار.

لم أهدر ثانية من الوقت ، احتضنته كعزيز غال ، وهرعت به إلى النهر القريب ، وفيوض من السعادة تداعب خيالي ، غسلته بعناية فائقة ، غسلت كل خيط فيه ، وأعدت غسله سبع مرات ، كي ينظف ويطهر أيضا ، فما أدراني لعل شيئا من النجاسة لحقته ، وهكذا منيت النفس بارتدائه عما قليل ، فما هي إلا ساعات ويجف تماما ، وأتيه به بين الناس دون خوف من برد أو سواه ، فإنه إلى جانب الدفء الذي يمنحني إياه ، يرد عني أيضا وقع الضربات والهجمات التي كنت أتعرض لها ، عندما أقع بين أيدي الأطفال الصغار ، فهو سميك ويتحمل ( الدعك)

كنت أنظر إليه وهو ممدد أمامي على الأرض ، تحت أشعة الشمس التي لا زالت ترسل أشعته الحارقة ، رغم قدوم فصل الشتاء ، وأخاف أن أفقده فتتلاشى أحلامي التي أبنيها وأداعبها مع هذا المعطف ، لذا كنت أجلس فوقه عندما ألمح أي شخص يقترب منا نحن الاثنين ، كي لا يراه فيطمع به ، ويأخذه دون أن أتمكن من الدفاع عنه .

أما عندما كنا نخلو باطمئنان فقد كانت يدي بأصابع كفي الخمسة تمسح فروه ، وتلمع أزراره ، وتداعب جيوبه وياقته ، بينما ينطلق خيالي مهرولا ليرسم أمامي صورتي وأنا أرتديه وأسير

به بين الناس، بسعادة لا تعدلها سعادة .

 والحقيقة أن هذا المعطف الكنز رغم جور الأيام عليه كما جارت علي كانت تبدو عليه سيما النبالة والعراقة ، لذلك فقد صحت توقعاتي، وصدق حدسي مرة أخرى ،فما أن ظهرت به بين الناس وأنا أتعمد أتعمد أن يظهر فروه الجميل من الداخل ، حتى كانت النظرات تلاحقني ، نعم لقد نجحت لحد ما في لفت أنظار الكثيرين من أهل البلدة إلي ، كما كان الكثير من أصحاب المحلات الذين يعرفونني جيدا ينظرون إلي باستغراب ودهشة وهم يتهامسون ويضحكون ، وأنا أسبح في بحار النشوة والسعادة ، وألحظهم بطرف عيني متباهيا بهذا المعطف وأحدث نفسي :" لايحتاج إلا إلى لمسة أناقة ليكون ملوكيا ".

 يا الله كم من أناس يخفون خبثهم ولؤمهم داخل ملابسهم الأنيقة ، فينحني لهم الناس احتراما مأخوذين بما يرون لا بما يعرفون ... هكذا انطلق لساني يتمتم بهذه الكلمات دون أن أدري سببا لذلك ، إلى أن سمعت الفران ( أبو جميل)ينديني بعد أن ابتعدت بضعة أمتار عن باب الفرن .

 بيني وبين ( أبو جميل ) علاقة حميمة أحرص أشد الحرص على بقائها وتطويرها ، فقد كنت آوي إلى الفرن في أشد ساعات البرد والمطر ، فأجد الدفء والراحة ، وأكثر من ذلك فإن ( أبو جميل ) لم يبخل علي يوما برغيف من الخبز الساخن وربما معه كأس من الشاي أيضا ، ولا أنكر أنه يعاملني معاملة حسنة ، ويعطف علي بصدق .

 جئت إليه ووقفت بعيدا عنه قليلا ، ليس خوفا منه ، بل لأستعرض هذا المعطف أمامه ، ولكي يتمكن من رؤيته على جسمي بشكل أفضل ، ثم حييته وأنا في غاية السعادة وكأنني أقول :انظر أليس جميلا ؟ نظر إلي يتأملني ، ثم أخرج من بيت شفتيه صفرة إعجاب وقال : فعلا القالب غالب ... من أين لك هذا يا برهوم ؟والله كأنك من أبناء الذوات !!تعال .. تعال تقدمت منه ، أجلسني على البسطة بجانبه ومد يده يتحسس المعطف ، يتفحصه من الوجه إلى القفا، أما أنا فقد كانت رائحة الخبز الشهية تفعل بي فعلها ، لذلك اغتنمتها فرصة ومددت يدي دون استئذان ، وتناولت رغيفا وباشرت بقضمه على الفور ، لقد كان يتميز يطعم مختلف هذه المرة وبنكهة جديدة لم أعهدها من قبل ، ولما لاحظ نهمي وانهماكي في الأكل ربت على كتفي ونادى على العامل : هات لبرهوم كأسا من الشاي وهو يقول : صحتين وهنا .. مطرح ما تسري تمري وأن بدوري كنت أهمهم شاكرا ، ولكني لما أمسكت كأس الشاي بيدي وبدأت أرشفها وأنا أتأمل وجه ( أبو جميل ) لمحت ظلالا في قسماته أخذت تحقن الشك في نفسي ، وتدفع بالقلق الشديد إلى أعماقي . ..

 لم يكن (أبو جميل ) هو الوحيد الذي لمعت عينا ه على المعطف ، وسا ل لعابه عليه ،بل هناك الكثيرون ، لدرجة أنهم ألفوا حكايات كثيرة وقصصا في أيام قليلة حول هذا المعطف ، وكنت أزداد انتفاشا وإعجابا وسعادة وأنا داخل هذا المعطف الأسطورة .. وأذكر أن الخياط ( أبو عدنان )أخذ يغريني بكلام معسول ، كي أخلع المعطف بحجة أنه سيصلحه ، ويرفو أزراره ، ويكويه خدمة لي ، وأنا أزداد تمسكا به وعنادا ، بل كنت أنكمش فيه ، وأحاول أن أدخل بين خيوطه .

 لقد ذاع صيت معطفي هذا ، وذاع صيتي معه ،حتى أن النساء في اجتماعاتهن كن يتحدثن عني وعن تاريخ حياتي من خلال الحديث عن المعطف الذي أرتديه ، وربما يقلن لأطفالهن عندما يأوون إلى فراشهم أني لص سارق ، ويحذرونهم مني لا أدري !!.

وفي ضحى أحد الأيام وبينما كنت أتيه بمعطفي هذا بين الدكاكين ، وتحت مظلاتها أحتمي من المطر ، فاجأني ثلاثة شبان بإحدى الأركان المنزوية ، وبدأؤا معي تحقيقا بذيئا مخزيا جعلني استنفر كل خلية من خلايا جسمي استعدادا للدفاع عن معطفي المستهدف وعن كرامتي . وما أن سنحت لي الفرصة حتى وجدتني مثل عفريت انفلت من قمقم وأنا ألوح بذراعي ، وأرفس بقدمي ، وأضرب الشبان الثلاثة بكل ما أوتيت من قوة ، وبكل ما تقع عليه يدي ( علبة ... صفيحة ... حجارة ) ولما انجلت المعركة ، وهدأت الحركة ، كنت أقف منتفشا مثل ديك أعلن انتصاري وأنا أقول : " أوباش ... أوباش " تريدون المعطف هاه !!؟

 لقد هرب منهم اثنان أما الثا لث فقد كان طريحا على الأرض ، فاقد الوعي ، مضرجا بدمائه النازفة ، ولكني لم أكترث...

ولأني لم أكترث ، فقد انتهى بي الأمر إلى هذا الوضع!!في هذا المكان ( النظارة) وكم تمنيت من كل قلبي لو أن الفران ( أبو جميل ) يأتي كي ينقذني مما أنا فيه ، ولو استولى على المعطف المشئوم ثمنا لذلك ، ولكن أحدا لم يسأل عني ، رغم مرور أربعة أيام علي وأنا مرمي فوق بلاط غرفة باردة اسمها ( النظارة ) . كنت أعتقد أني هنا لأني أجريت دم إنسان ، وآذيته أشد الأذى وأنا في غمرة الدفاع عن نفسي وعن هذا المعطف ، ولكني اكتشفت أن سبب وجودي في ( نظارة السجن ) هو المعطف الذي منحني يوما السعادة والإحساس بالحياة حيث وجهت إلي تهمة سرقته ...

بقي سؤال أخير كنت أطرحه على نفسي باستمرار دون أن أحظى بجواب شاف ، هو : هل كنت في هذا الوضع لو لم أكن فقيرا معدما ، لأأهل .. ولا أخوة ... ولا أقرباء ... ولا عشيرة ...؟

 وبعد فشلي في الإجابة قررت أن أتنازل عن هذا المعطف لأحد رجال الأمن لقاء حريتي ، لأني عاجز تماما في الدفاع عن حقي في ارتدائه والاستفادة منه ، في مجتمع تضيع فيه أبسط الحقوق .