العطاء المثمر
عبد الرحيم عبد الرحمن منصور
لابد من إجراء العملية .. هكذا قرر الأطباء
كانت هذه هي الجملة الوحيدة التي سمعتها منه على مدى الساعة والنصف التي قضتها إلى جانبه وهو على سرير المستشفى الغرفة ميدان صمت ممض مؤلم لا همس ، ولا تأوه ، ولا حركة سوى صوت أنفاسه المتلاحقة ، وحركة صدره الذي يعلو ويهبط . الصمت سجن رهيب ، سجن يسكنه الهم والقلق ، ويلفه الموت برداء أسود . لا شيء يدعو للقلق والخوف ،( الأمر عادي جدا والعملية سهلة مأمونة بإذن الله . ) هذا ما قاله الطبيب غير مرة . سألته محاولة أن تفك حصار الصمت المضروب بقوة : هل تتألم ؟ أجاب بالنفي بحركة جافة من رأسه ، قالت : أهو الخوف من الجراحة ؟ أشاح بوجهه عنها .
إنها تجيد قراءة ملامح زوجها ، وتجيد فك رموز تعا بير وجهه ، إلا أنها في هذه المرة ، وفي هذه اللحظات ،كانت تحس بشيء من الارتباك ، طوح بها بعيدا . سكنها الحزن ، وخيم عليها بمسحة صفراء موغلة في الهم ، نقلتها الأفكار الدخيلة إلى آفاق غير مستحبة ، وطافت بها في مسارب الخوف ، وكبلتها بقيود أسئلة تخشى من أجوبتها . لماذا لا يكلمني ؟ لماذا يشيح بوجهه عني ؟ لماذا تهرب عيناه من عيني ؟أفي هذه الحالة ؟ وهو أشد ما يكون حاجة إلى من يقف إلى جانبه ، لماذا؟ لماذا!!؟
ندت دمعة من عينها ، مسحتها بسبابتها وتنظر إليه ، ومراجل من الحزن العميق تغلي في أعماقها ، تضعها على حافة الانهيار ، حزن لا علاقة له بصحته ومرضه هذه المرة ، حزن فجره صمته غير العادي ، ونظرته الهاربة ، إنه ينظر إليها خلسة ، يخشى من النظر في وجهها حتى لا تلتقي عيناه الزائغتان ، ببريق عينيها الصافيتين ، وهي تراقبه بنظراتها الكسيرة ، وقلبها يخفق له بالدعاء .
باتت على يقين أن صمته ، هربه ، تعبير فاضح عن شعور قلق بالذنب ، حدثت نفسها : لن أتخلى عنه أبدا ، إني أسامحه دائما ، والآن أسامحه ، سأكافح بكل ما أوتيت من قوة وجلد كي أرد جماح نفسه ، وأعيده إلى رحاب بيته وأولاده ، لن أسمح أبدا لأي متطفل أ، يحوز ولو على قسم صغير من تفكيره ، إنه زوجي ، هو ملك لي وحدي ، ويجب أن يبقى لي وحدي .
هناك تعابير لا تعرفها قواميس اللغة ،
ولم تتوصل إليها مدارك اللغة المحكية ، تستطيع الزوجة الوفية أن تلتقطها من ملامح
زو جها بنظرات كاشفة ، وتحولها إلى تجاويف القلب ، فيفك رموزها ، ويستجلي معانيها ،
لذا فقد بدا عليها التوجس والخوف وهي تراقبه باهتمام .
في آخر مرة خرج من البيت مهددا متوعدا ، يشكو من صخب الأولاد ، ويتأفف من فوضى
البيت ، ويتبرم من لزومها المطبخ لفترات طويلة . حجج واهية لامبرر لها إلا افتعال
أزمة ، لقد بدا في غاية العجب ، حينها وضعت يدها على قلبها وهرعت إلى الأطفال
تضمهم إلى حضنها ، وبكت بصمت ، أحست أن بيتها مهدد بالانهيار ، أحست أنه يهتز من
أركانه و زواياه بعنف ، إن هناك قوة جذب محرمة تشد زوجها ، وتقصيه بعيدا عن كهف
الشرعية .
قررت في داخلها أن تواجه ذلك بحزم ، وبما تملك في من صبر وحكمة ، فأخذت تكتم حزنها وتخفي ألمها ، وتستر جرحها غائر خاف هالة من الابتسام ، وهي تستشف فيوض المتاعب القادمة .
صار يغيب عن المنزل لمدد طويلة ، وغالبا ما يعود آخر الليل منهكا ، ليجدها في انتظاره ، تشرق بالبسمة ، وهي على أتم استعداد لخدمته والقيام بأمره ، ومع ذلك كان يعاملها بجفاء على غير عادته، ولأنها لم تتوصل إلى اكتشاف غريمها الذي سبب لها هذه المصيبة الآن ، ورغم ما تتمتع به من صبر وحكمة ، فقد تأججت النيران في قلبها ، وطال لهيبها أجمل اللحظات ، وأصدق العواطف ، وأنبل المشاعر ، وانتصب كابوس ثقيل هدد بوطأته البيت والأبناء ، ولأنها زوجة وأم فقد كانت تعطي من صحتها وراحتها ومشاعرها ، وتتحمل الكثير بصمت ، ليبقى البيت ملاذا مليئا بالمحبة والوئام . والأم كنز العطاء والتضحية ، يتجلى عطاؤها ها في أسعد اللحظات وفي أشدها قتامة ، وهي زوجة وأم ليس أمامها غير هذا السبيل .
نظرت إلى سقف غرفة المستشفى ذي البياض المميز ، وهي تكتم أنة تتحدى صبرها وتماسكها ، ثم أرسلت ناظريها من خلال النافذة المقابلة للمقعد الذي تجلس عليه بجانب زوجها الراقد على السرير ، وفتحت كتاب حياتها ، واستعرضت بين صفحاته أيامها ولياليها مع هذا الزوج الذي غدا جامحا حتى في أثتاء مرضه ، ونقبت بين سطوره عن سبب ما يجعله يبتعد عنها ، ثم دققت في الهوامش لعلها ترى في حياته خلال ملاحظاتها خارج البيت ، وأثناء ساعات العمل ما يعكر صفو حياتهما التي أقيمت على دعائم قوية من الحب والوفاء والإخلاص .
إنها لا تريد أن تصدق هواجسها وظنونها ، ومع ذلك استطاعت بغريزتها الأنثوية المرهفة أن تلمح ظلالا باهتة لأشباح تتسلل بلصوصية وإجرام إلى حياة زوجها ، كي تسلبها الهناءة والراحة والاستقرار ، فأوشكت أن تصرخ بأعلى صوتها : لا... لا... من...من... من هذا الذي يجرؤ على الاقتراب من زوجي !؟ وسرقته مني ؟ من...؟ إلا أنها بعد أن اكتشفت أن هواجسها كانت تدور في ساحة الحقيقة ، وأن زوجها قد وقع فعلا في شباك منصوبة له ، فهو يخبط يمينا وشمالا ، يبحث عن ثغرة يهرب منها من قلب ذلك الفخ المنصوب دون أن ينجح ، فضلت أن تعالج الأمر باتزان وحكمة ، واختارت طريق الصبر والأناة ، وأسلوب الصبر والتضحية والعطاء بلا حدود ، فواجهت تذمره وقلقه وغضبه الدائم بمزيد من الحب والحنان ، وفيض العاطفة الدافئة المتسلحة بالصبر حتى الرمق الأخير ، كانت له ظلا ظليلا ، وواحة وارفة يستريح فيها كلما أتعبه الشطط، وهي تلمح آثار الندم ظاهرة بادية في كل حركة من حركاته .
تذكرت آخر مرة عندما خرج من البيت مهددا متوعدا ، كان قنديل قلبه الذي يشع وفاء وإخلاصا قد خلا من الزيت ، وجف فتيله ، لأن شجرة لبلاب متطفلة قد مدت إليه جذورها السرطانية الوقحة ، وامتصت ما فيه ، وأفرزت سموما كادت تعصف باستقرار البيت وهدوئه ، والزوجة الوفية الناجحة تعرف كيف تدافع عن بيتها ، وترد جماح زوجها ، بل تدافع عنه إذا ما تعرض لمكروه أو أذى ، لذلك فقد فتحت من قلبها وعقلها وعواطفها جداول العطاء المستمر بلا حدود ، تمد زوجها بما يلزمه كي يبقى ضياء قلبه منتعشا ينير له الطريق ، حتى لا يستمر بالزيغ والتيه .
كانت تحس أن في قلبه ، في أعماقه صراعا مستعر الأوار بين مد وجزر ، وأن كبرياءه كرجل تمنعه من الاعتراف بخطئه ، أو من الارتماء في أحضان توبة مذلة ، كانت تقرأ في ملامحه آيات الندم ، ثم تلمح غبار الجموح ، فتفتح له هي أبواب الرجاء والعودة بأمان دون أن تجرح كبرياءه ، أو تؤثر في مشاعره وأحاسيسه بشكل مباشر ، متحلية بالكثير من الصبر والحكمة .
لم تشعره بشيء مما تحس به ، ولم تطلعه على هواجسها ومخاوفها ، ولم تعاتبه يوما ، ولم تتغير عليه لحظة ، إنما بقيت في تودد دائم ، ورعاية تامة له ، تتقرب إليه تدنو منه ، وهي واثقة كل الثقة ، أن البذور ا لأصيلة التي استنبتتها في قلبه ووجدانه على مدى سنوات زواجهما ، لن تؤثر في نمائها شجرة لبلاب متطفلة ، إذا ما واصلت العطاء واستمرت بالبذل . إنها تخوض معركة شريفة ، وصراعا ضد الشر الذي يهدم الحياة ، ويطفئ جذوة الحب والوئام ، قبل أن يهدم البيوت على ساكنيها ، وكانت كلما أحست فتورا في عزمها ، وضعفا في همتها ، تتمثل بهذه العبارة التي قرأتها يوما : ( إننا في الحقيقة ، عندما نعطي الآخرين حبنا وعطفنا ، فإننا نأخذ أضعاف ما نعطي .)
تذكرت هذه الكلمات وهي في مكانها على
المقعد بجانب سريره في المستشفى ، فابتسمت وقالت: نعم الأخذ مثل العطاء ، الأخذ من
جنس العطاء ، إلا أنه يكون مضاعفا ، ثم أغلقت كتاب حياتها الذي كانت تستعرضه ،
وأحست بدبيب الرضا والسعادة يسري في أوصالها ، بل أشرق وجهها بفرحة غامرة ، تنم عن
تدفق شلال عارم من إرادة العطاء المستمر الموصول بالتضحية والصبر ، وهي على يقين
أنها أوشكت أن تخلص زوجها من الأشباح والخفافيش وكل الطفيليات التي تعترض طريقه ،
وتحرف مساره ، وتعود به صافيا كما كان ، إلى واحة المحبة والإخلاص .
نظرت إليه بحنان ، وقد أخذ يسعل سعالا خفيفا ، كأنه مقصود ليقطع به حبل الصمت ،
نعم ، إنه كان صامتا لا ينطق بلسان ، إنما كل ما فيه كان يفيض بالهواجس الحائرة ،
وينطق بالحقيقة المؤلمة ، حقيقة أنه أوشك أن يفرط بدرة ثمينة ، وجوهرة نادرة قل
مثيلها في عالم اليوم ، الأمر الذي جعله تحت مظلة القلق ، فأصاب قلبه بالخفقان ،
وجعل أنفاسه تتلاحق ، وكأنه يريد أن يجمع قدر ما يستطيع من أسباب الحياة ، ليواجه
به جحفل الموت الذي بدا أنه يزحف نحوه .
كانت حالته في هذه اللحظات تدعو إلى الكثير من الشفقة والعطف ، وكانت هي تنظر إليه وتلهث مثله دون شعور منها ، ولا إرادة ، وكأنها هي المريضة لا هو ، أنفاسها تتلاحق مثل أنفاسه ، حبات العرق تتدحرج على جبينها ووجهها تماما كما تتدحرج على جبيه ووجهه ، ثم يلفه البرد فترتجف أوصاله ، فإذا هي كأنها ورقة تلعب بها ريح جليدية ، هي وهو تحولا إلى حالة واحدة .
ذعرت لما سعل ، وقفت بعصبية ، نادت على الطبيب بهستيريا ، هرع إليها ومعه بعض الممرضات ، أعطوه حقنة مهدئة ، وطمأنوها على حالته .
استسلم لنوم عميق ، تهالكت هي على المقعد ، أسندت رأسها إلى كفها ، وتسمرت عيناها في وجهه ، وغاصت في لجة حلم بدا لها سعيدا .
بعد إجراء العملية ونجاحها ، أشرق وجهه، وطفح البشر على محياه ، إذ كان يراها دائما إلى جانبه ، تبسم له كما تبسم زهرة لشمس الربيع ، إلا أن ظلالا من الكآبة ما زالت تلوح في محياه بين الحين والحين ،، وكأنها إشارات الندم والشعور بالذنب ، ورايات الاعتذار المرفرفة التي لا تنفع معها الكلمات .
إنها تجيد قراءة التعابير ، وتجيد فك رموز الملامح ، لذلك نظرت إليه بابتسامة الرضا ، هدهدت بها حزنه دون أن تتكلم ، إنها لا تريد للكلمات أن تشوه فرحتها بالانتصار ، مالت عليه حانية كما تحنو أم على طفلها ، وطبعت على جبينه قبلة جعلته يحس وكأن مصباح قلبه الذي جف وانطفأ ، اتقد فتيله بزيت جديد ، استدعى طيور التسامح والتفاؤل ، فصارت ترفرف فوقهما بمودة ، بينما تلاشت خفافيش الظلام مذعورة من وقدة الحب والتضحية والوفاء ، فكانت الدموع التي تنهمر من عينيهما تغسل آثار الماضي وتنظف طريق العودة الواسع إلى رياض السعادة الزوجية الأثيرة .
قالت وابتسامة عريضة تنير وجهها الصبيح: " الحمد لله على سلامتك " ، ثم استسلما لربان الصمت الذي أخذ يطوف بهما في جو حالم بين كل الرياض السعيدة التي غرساها ورعياها معا في الأيام الماضية.