فـزتُ وَرَبِّ الكعبة ...
... اليوم بدأ القصف مبــــــــكرا ، قصفًا أشدَّ ضراوةً من القصف في الأيام التي أعقبت اليوم السابع من هذا الشهر ، الموافق لفجرِ صباح السبت 22/3/1445هـ حيثُ اليـــــــــــوم الأول من طـــوفان الأقصى . ولا تغيب عن عينيهـا المشاهـد المؤلــمة التي تنفطر لـــها القلــــوب ، وتتفتت من قسوتها الأكباد الحــرَّى ، ليس في هذه الحقبة الحالية ، وإنما على امتداد سبعين عاما خلت ، وأبناء فلسطين في كلِّ مدينة من مدنها ، وفي كل قرية من قراها التي كانت تعيش آمنة مطمئنة ، يعيشون في هذه الحقبة من عمر الاحتلال الصهيوني لفلسطين حصارا موجعا ، وابتلاء ثقيلا أثبت بجدارة لأبناء غزة ، وسكان كافة أرجــــــــــاء فلسطين على صبرهم الجميل ، وعلى يقينهم بتأييد الله تبارك وتعالى لهم . وعلى ثباتهم وتمسكهم بحقهم في أرضهم المقدسة .وهذه أصوات القذائف مازالت تهز جدران البيوت ، وما زالت سحب الدخان تحجب أحيانا نورَ الشمس رغـم سعه الفضاء . كانت لناهد جارةٌ جاءت مع الكثير من الأسر الفلسطينية إلى قرية تعيش فيها ناهد بعد زواجها من خالد ، لعل تلك الأسر تنأى عن الأماكن التي يشتد فيها القصف من الطائرات أو المدفعية وغيرهما من وسائل التدمير الصهيونية التي تحيط بحزام غــزة . وكثيرا ماكانت ناهد تزور هذه الجارة وتواسيها على مافقدت من أسرتها ، إذ استشهد أبوها وأمُّها واثنان من إخوتها جـراء قصف صهيوني . وكانتا تستذكران ماجرى من مآسٍ موجعات ، وهما تحمدان الله على ماقدَّر وقضى ، فالأمر بيده سبحانه وتعالى .علما بأن صاحبة البيت امرأة عجوز مقعدة ، تتردد إليها ابنتها التي تعيش في القرية المجاورة . وكانت العجوز تعاني من أراض الشيخوخة ، وترتجف من هول الأصوات التي تتعالى قرب المنزل ، وكانت أصوات المستغيثين بالله تتعالى بالتكبير ، وبطلب السَّلامة من الله ، والناس يرددون : ( يا ألله يا رب مالنا غيرك يارب . يا أرحم الراحمين ، يامجير الخائفين ) . وتقوم أحيانا ناهد تنظر من طرف النافذة إلى السماء المضاءة بلون الفسفور الأبيض ، الذي لايخفى تأثيره القاتل على الناس . وتحتضن طفلها الذي لايتجاز عمره العام ، وتضمه إلى صدرها متضرعة إلى الله أن يحفظ الجميع من شر هؤلاء الذين فقدوا كل معاني الرحمة والإنسانية ، واستباحوا كلَّ ماحرَّم الله على عباده من قتل وتدمير .حتى أن سكان غزة وما حولها باتوا يكتبون أسماء أبنائهم وذويهم على أيديهم وعلى أرجلهم ،وعلى بطونهم ، حتى يتعرف إليهم مَن يقومون بالتعرف على ذويهم ، أو لدفنهم في مقبرة جماعية ، أو أنهم يسلمون الأشلاء إلى أهلها إن تعرفوا عليهم . وفي تلك اللحظات صاحت ناهد ... تنادي جارتها الأخرى في المنزل المجاور ، وقبل أن تسمع صوتها امتلأ المكان بغيمة سوداء قاتمة ، اختفت فيها النداءات ، وتلاشت الأصوات مختنقة في الحناجر ، وانعدمت الرؤيا إلا رؤية الأحجار التي تراكمت فوق بعضها بعد تدمير المنزل المجاور بسبب قذيفة صاروخية جعلته أثرا بعد عين.وهاهي حال غزة المحاصرة والمحرومة من مقومات العيش التي لايستغني عنها الإنسان كالطعام والشراب ...
وتجلس ناهد وهي تحتضن طفلها بين ذراعيها ، وهي تتحدث مع العجوز المقعدة صاحبة البيت حول مايجري لأهالي قطاع غزة جــراء هذا الغزو البربري الذي تخلَّى عن معاني الإنسانية . وكشَّر عن أنياب حقده ، بل لعله أصيب بداء الكبرياء ، في حين تخلَّى عنَّـا وعن غزتنا وأقصانا وأسرانا وفلسطين التي كانت قضية الأمة جمعاء ... أقربُ الناس إلينا من بني جلدتنا ولغتنا وديننا الذي يدعو لنصرة الأخ لأخيه . كانت دموع العجوز المقعدة تسيل من عينيها الذابلتين ، ولسانها يلهث بالدعاء لرب الأرض والسماء أن يتدارك أهل غزة وسكان فلسطين عامة من شر هؤلاء الصهاينة الذين سلُّوا أمضى ماعندهم من سلاح جاءهم من الدول الاستعمارية ، التي تطمع بخيرات البلاد في القسم من العالم . كانت ناهد تصغي إلى كلمات تلك العجوز التي مازالت تتذكر الكثير من صور الإجرام التي ارتكبها العدو الغاشم في قبية ودير ياسين وفي المسجد الإبراهمي ... وكانت تريد مجاراتها في حديثها ليكون حديثها هي أيضا صدى لصور المعاناة التي غطَّت آفاق نظرتها في هذه الساعات العصيبة ، التي بات كلُّ شيء في أكنافها يستجير بالله ، ويسأله الفرج ، ويسبحه سبحانه وتعالى ، وكأنَّ لكل شيء من حولنا له لسان يستغيث ن ودمع يستجير ، وأنفاسٌ تُصعدُها الصدور المترعات بالأسى الذي جلبتْه الأحداثُ الجِسام. وربما كانت ناهد تشرد بين الفينة والأخرى ، بعد أن انفضَّت حكايات أسرتها السعيدة حيث يجتمع الأهل والأرحام في أمسيات جميلات ، كان ذلك أثناء زواجها بالبطل الجسور خالد الذي شهدت له اقتحاماته الجريئة في حصون العدو ، ونال من الصهاينة مانال ، تستذكر قصصهمع إخوانه المجاهدين وهم ينتقمون لما حلَّ بالأقصى ، ولما يعاني منه الأسرى في سجون العدو المظلمات الموحشات ، ولِمـا يحيكه العدو مع أسياده من مؤامرات على بلادنا خاصة ، وبلاد أمتنا عامة . طلبت منها العجوز المقعدة شيئا من الطعام الموجود في البيت ، فقامت مسرعة تلبي لهـا طلبَها ، فلم تجد سوى كيس خبز وبقايا زعتر وشيء من الزيتون ومن الخيار ... وضعتها أمام العجوز . واستطردتا في حديثهما ، وما لديهما سواه . وتكاد مراشفهما تذبلان ولا تطيقان الاستطراد في حديث ، أو تنعمان بلذة الطعام الذي لايستغنيان عنه في فطور أو عَشاء . أنه الزعتر والزيتون ، وما أطيبهما إذا طابت الأيام ، ونأت عن ديارهم غمامة الآلام .
غفت العجوز على فراشها ، لتلمح ناهد على قسمات وجهها أثر السنين العجاف ، وأثقل جفنيها سهادُ ليالٍ خلت تملؤُها الآهات والحسرات ، وتلمُّ ناهدُ جفنيها على بعضهما لتعيش مسيرة عام مضت على زواجها من خالد ، خالد الذي بات بطلا من أبطال المقاومة الأشداء ، الذين عاهدوا الله سبحانه وتعالى ، أن يعيدوا الأقصى إلى أهله أبناء الذي استلم مفاتيحه ذات يوم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وأن يحرروا أسراهم الأفذاذ ، وأن يلقنوا هذا العدو الغاشم دروس العزة والكرامة والإباء ، وكان شعار خالد إذا ماحدَّث زوجته ناهد في صباح يوم يخرج مع إخوانه في مهمة : ( إلى إحدى الحسنيين ، الشَّهادة أو النصر ) . وكأنها غفت كذلك بعد أن نام طفلها الصغير ، واستسلمت لطيف من الأحلام ، تحدث العجوز في منامها ، وقد سألتْها عن خالد . فقالت وكانت عيناها مغرورقتين بالدموع : كانت آخر زيارة له إلينا منذ أسبوعين ، وبقي لدينا يوما واحدا ، وكأنه جاء يودعنا ، فالعدو في أشدِّ حالات إجرامه وعنجهيته الفارغة الخسيسة ، احتضن طفلنا الصغير ونظر إليه كثيرا ، وتغيَّرت سيما وجهه المبارك ، متلألئة بأنوار إيمانه وتقواه ــ ولا أزكي على الله زوجي الذي ضرب المثل الحي في حبه لربه ودينه وأسرته ، ولفلسطين وأقصاها المبارك ، وأسراها الذين قيَّدهم العدو في دياجير التعذيب والإهانات ، وما أكثر القصص المفجعة التي نسمعها من آبائهم أو أمهاتهم ، تحدثنا عنها كثيرا ، وكان زوجي يعلمها جيدا ، بل عانى من السجن لدى هؤلاء الصهاينة لمدة ثلاثة أعوام خاليات قبل زواجنا ، وكان يقول لي اطمئني ياناهد :( القصص كثيرة ، ولكل سجين قصة كثرت صفحاتها أو قلَّت ، وقد تكون القصة التي يكتبها عنهم الأدباء الكرام بليغة الألفاظ ، عذبة السبك ، حلوة الطعم ، ولكن هذه البلاغة والعذوبة والحلاوة لاتكفي ، والعبرة ليست في هذا ، ولا في كثرة الصفحات أو قلتها ، إن لم تتأرجْ أطيابُها ، بحقيقة أسباب عمليات الاعتقال والسجن ، فالعدو الصهيوني خبيث وحاقد ، وحيث نستشف من خلال السجن مُجْتَنى هذا الصبر وهذا الجهاد مايجب أن تحمله تلك القصص للدعوة إلى الأعمال الصالحات ، وإلى السلوك النبيل ، وتقوِّي بيئة الإصلاح الاجتماعي ، وتعزز من مكانة الإرث الكبير لحضارتنا العريقة ، ومكانة أمتنا بين أمم الأرض ، وتسمو بإنسانيتها التي لم يعرف التاريخ مثيلا لها منذ أن خلق الله الناس ، وهيَّأ لهم أسباب إعمار هذه الأرض . ولن تعبأ أمتنا بما في بيئة الصم البكم العمي الذين لايعقلون في أمة تعداد العرب فيها مايقرب من نصف مليار ، وأما المسلمون في أرجاء المعمورة فربما يصل عددهم إلى ملياري نسمة ، وهم أمام عدو جبان حيث اضمحلت قدراتُه العقلية ، وتلاشت مواهبُه الفطرية . والعقل الكليل في الإنسان الكليل هو مظهر محزن ينادي بأعلى صوته : أنْ إلى الفناء والاضمحلال ، لعل الله سبحانه يرينا فيهم اليوم الذي يثلج صدورنا بالنصر المبين ، وتحرير المسجد الأقصى وسائر أرض فلسطين من شواطئ بحرها إلى أفياء نهرها ، وليس ذلك على الله ببعيد ، بــلا استكبار ولاغلو ولافوقية فارغة جوفاء ، وذلك من أجل إعمار الأرض بأيدي الإخـاء الإنساني ، والتعارف الأممي الذي لايرضى أبدا بهذه الهمجية ولا بهذه الوحشية التي شاهدنا مآسيها بأم أعيننا نحن وآباؤُنا وأجدادنا... ) .
ويطرق باب دار العجوز ، وكان لايطرق إلا إذا جاءت ابنتُها من القرية المجاورة لتزورَها . فاستيظت ناهد من غفوتها ، وقطع عليها رؤياها طرقُ الباب ، وجَلَبةٌ غير عادية في الشارع ، فتحت الباب وكانت الصدمة لمَّـا رأتْ سياراتٍ تابعةً للمجاهدين ، وقد ترجَّلوا وأحاطوا بالسيارة التي كانت عند باب الدار ... وجوه تتلألأ بأنوار العزة والإباءِ ، وسواعد مفتولة تُنبئ عن معاني البطولة ، وأنفاس حرَّى تصَعدُها الثاراتُ للأقصى وللأسرى وللشهداء الأبرار ولفلسطين كلِّ فلسطين الجريحة ... ناهد ألقتْ بكلا محجري عينيها على هذا المشهد ، وكأنها غابت مــرَّةً أخرى بكليَّتِها عن هذا العالَم الغريب ، ليلفها الحنينُ المتوهج ذكرياتٍ أذبلتْ رونقَها الأخَّاذ حرارةُ الاعتداءات الصهيونية البربرية الحمقاء ، أجل لتحملها غفوتُها هذه إلى أيام صِباها البريء الودود ، وإلى جلسات أسرتها الأولى قبل الزواح ، ويكاد قلبُها ينتفض وهي تدخل باب مسؤولية أسرة بدأت بالنمو ، فهذا زوجها الوفي التَّقي المجاهد ، وهذا طفلها بِكرُ أبيه الذي ولد في أرجوحة مرهقة ، ولم يــــَرَ وجهَ الصباح المشرق الريِّق في جنبات بيت أهله الذين هُجِّرُوا منه عنوةً وبلا رحمة ... يا ألله ... وليُعيدها إلى الواقع المرير الذي تعيشه غــزَّةً اليوم . أهي في حلم ؟ أم هي في حنايا كابوس ثقيل ؟ أم هي في ... ناهد ... ناهد ... واستيقظت ناهد من غفوتها وكانت تبحث عن أمر ــ مــا ــ أجل استيقظت على صوتِ جارتها التي كانت تناديها قبيل طرق الباب ، وتفتح عينيها المثقلتين بمزيد من الرؤى ، وكثير من الصور ، وكثير من النداءات القدسية التي لايسمعها غيرُها إلا ماندر ... ناهد ... وتحضنها جارتُها التي علمت بنبأ هؤلاء الزوَّار في وضح النهار . ناهد هؤلاء إخوان زوجُك ... وكادت تغفو أو تغيب عن وجوه القوم ، ولكن زفرة من أعماق أحنائها التي فاضت بنهر من حنين إلى وجه الحياة التي يعيشها الآخرون . وتقدم أخــوا الشهيد محمد وأحمد بألبستها الرسمية ألبسة المقاتلين المحاهدين الذين كتبوا معجم ملحمة : ( طوفان الأقصى ) . قال محمد أختي ناهد زغردي فزوجك اصطفاه الله شهيدا ، والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون ، وأقسم لك بالله وبناء على مارأيناه وهو يقاتل العدو من شجاعة نادرة ، ومن حب للشهادة ، وأصيب برصاص العدو ، وخــر وهو يقول : فـزت وربِّ الكعبة ... وأعادها ثلاث مرات ، وترجع العدو منهزما مخذولا ، وتقدمنا نحمل ثلاثة شهداء في تلك الموقعة ، وهاهو خالد يودعكم وهو يُزفُّ إلى الجنَّة بمشيئة الله . وتقدم أحمد وقال لها أختي الكريمة إننا جميعا سنموت إما على فرش التخاذل والهوان ، وإما في ميادين الجهاد ، ويالها من ميادين ، أختاه والله إني وددتُ أن أكون مكانه في تلك الساعة ، والله لن نبرح ميادين الشهادة أو النصر المؤزر طالما تتوقد في قلوبنا دماء الصدق التي بايعت ربَّ العالمين . تعالي ياناهد وانظري إلى وجه زوجك الشهيد لتتأكدي أنه فاز بالشهادة ... ويكشف عن وجه أخيه فإذا بوجهه يتلألأ بالنور ، النور الذي لاينكره الرَّائي ، إنه نورُ رضوان الله عن الشهداء ، إنه نور الذين صدقوا ماعاهدوا الله عليه ، فمنهم مَن نال الشهادة ، ومنهم مَن ينتظر ، وما بدَّلُوا تبديلا .
أكبَّتْ ناهد على زوجها ، وعيناها تفيضان بالدموع ، ولسانها يردد إلى جنات الخلود ياخالد ، وعسانا نلتقي في يوم لاريب فيه في ظلال رحمة الله ، ونحظى يومئذ برؤية نبيِّنا وصحبه الكرام، وبرؤية أهلنا وأبناء فلسطين المجاهدين الأبرار . وإنا لله وإنا إليه راجعون ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
وسوم: العدد 1060