الخيبة

لطفي بن إبراهيم حتيرة

الخيبة

لطفي بن إبراهيم حتيرة

[email protected]

سحب بلون الضّباب تعلو السماء... مطر خفيف يسقط رذاذا كأنّه ذرّات من النّور... أسراب من الطيور المهاجرة محلّقة عاليا ناحية الجنوب.. نسيم بحريّ يهبّ على القرية حاملا معه رائحة الأسماك وأعشاب البحر... أغصان الأشجار تتراقص نشوانة وهي تتعرّى من أوراقها كأنّها تستعدّ للإستحمام... في الشارع جمود كائن و فراغ ساكن, العدم يطلّ من كلّ ناحية و زاوية, حتّى من تلك العيون القليلة التّي كانت تمرّ بك, عيون مجهدة من طول ساعات العمل و قلّة النّوم, عيون مضرّجة بحمرة ممزوجة بصفرة كالحة قاحلة كمعظم أراضي المنطقة.

 إرتعاشات تصيب أطرافك.. تكلّس أصابعك فهي كالجليد تحرّكها فلا تستطيع... السيجارة بين شفتيك تمتصّها كما يمتصّ طفل جائع ثدي أمّه الفارغ الخاوي.. خمس سنوات مرّت عليك وأنت بهذا الحال لم تتغيّر ولم يتغيّر فيك شيء.. لازلت في مكانك تراوح كما يراوح الجندي فلا يتقدّم ولا يتأخّر.. كأنّ الأيّام هي عينها لا تتبدّل بل هي تدور على نفسها فتتكرّر, اليوم مثل الأمس و الغد كأنّه اليوم.. خمس سنوات ما أقصرها عمرا وما أطولهاعذابا.. خمس سنوات وأنت كما أنت ذلك العامل البسيط المغلوب على أمره يقضي النّهار كلّه في حمل الأكياس الثقيلة على ظهره ناقلا إيّاها من مكان إلى آخر داخل مستودعات ديوان الحبوب.. كنت تنهض في الخامسة صباحا على صوت المؤذّن المنبعث من صومعة الجامع الكبير بالقرية... وكان والدك الشّيخ هو أوّل من يغادر فراشه فيتوضأ ثمّ يبسط سجّادته في فناء المنزل فيتربّع عليها مرتّلا قرآنه و خاتما أوراده الصباحيّة بصوته الدافيء الحزين حتّى إذا حضّر للصلاة يقوم فيصلّي ثمّ يعود ثانية إلى تسبيحه مستغرقا في توحيد الله... كنت تجلس داخل غرفتك و السيجارة بين أصابعك و أنت تسترق السّمع خاشعا إلى تلاوة والدك مراقبا إيّاه منتظرا فراغه... و حين يستقيم والدك طاويا سجّادته تذهب إليه لتأخذ منه السجّادة و أنت تقول:

 - صباح الخير يا أبي..

و تضيف وأنت منحن تقبّل يده:

 - كيف أصبحت اليوم...؟

فيجيبك بصوت رقيق متعب :

 - يسعد صباحك يا ولدي..

و يصمت قليلا ثمّ يعود ليقول:

 - الحمد لله ياولدي الحمد لله...

.. وبعدها تتّجهان معا إلى مربط الحمار لتساعده على تسريجه وامتطائه و قبل أن يغادر المنزل تقول له بأسى ظاهر:

 - صحّتك يا والدي صحّتك لا تتحمّل فلا تتعب نفسك...

كنت تعرف عناده الشديد و مقته الأشدّ لترك العمل في الغابة و الجلوس بالبيت... فكان لا يجيبك و يمضي في طريقه بينما تبقى أنت كالصنم واقفا وسط الفناء... و تتذكّر والدتك المقعدة منذ شهور فتتّجه إليها وهي في غرفتها.. كنت تعرف جيّدا أنّها لا تنام من اللّيل إلاّ قليلا, لكنّك كنت تبالغ في الحذر من إحداث أيّ صوت و حين تقترب من باب غرفتها كانت تفاجئك و تناديك:

 - تعال... تعال يا وليدي.. أدخل...

فتد خل و تد نو منها ممسكا يدها مقبّلا جبينها ثمّ تقول:

 - أمّي صباح الخير كيف حالك اليوم؟

فتجيبك و في صوتها حشرجة وألم:

 - صباحك خير يا وليدي...

و كعادتها تلوذ بالصّمت و ترسل دموعا مدرارة... كنت على يقين أنّها ستفعل ذلك كشأ نها في كلّ يوم و كنت تعرف جيّدا لماذا هي تفعل ذلك, لكنّك كنت تتجاهل الأمر فتتركها و تخرج إلى عملك...

 .. و في المساء تعود إلى البيت منهكا, تعبا, فاني الجسد خاوي الرّوح كالحمار الهزيل الذي يحمّلونه ما لا طاقة له به, فتغتسل ريثما تعدّ لك أختك طعام العشاء فتصيب منه قليلا ثمّ تخرج إلى المقهى لتدفن ذاتك و همومك في لعب "الدّامّة"إلى حدود الساعة الحادية عشرة ليلا, ساعتها تعود إلى البيت و مباشرة إلى غرفتك لتنام..

خمس سنوات كأنّها أيّام معدودة حين تمضي و لكنّها حين تكون أمامنا تكون كالدّهر طولا...

 - صباح الخير...

وانتبهت للقادم الذي انتشلك من الهاوية التّي تردّت فيها نفسك فقلت تداري إضطرابك:

 - صباح.. صباح الخير..

 - متى تمر الحافلة...؟

سأل الآخر..

 - الآن .. الآن هذا موعدها...

قلت:

و نظرت إلى ساعتك كانت تشير إلى الخامسة و النّصف صباحا, و نسج الصّمت بينكما جدارا هائلا.. جعلك تغيب عن الواقع بعيدا في الزّمان, غريبا في المكان, و رحت في مجاهل ذاتك المظلمة باحثا عن لحظة مضيئة و ركن آمن.. هيهات... هيهات لا ضياء و لا آمان فكلّ حناياك حالكة السواد قاحلة, و كلّ ثناياك مضطربة مشوّشة... والدتك المريضة تلحّ عليك بالزواج في كلّ يوم, و في كلّ لحظة, قبل أن تعجّلها الأيّام فترحل عن الدّنيا, ووالدك الشّيخ العجوز هو أيضا يشدّد على زواجك كلّما سنحت له الفرصة... لكنّك كنت عنيدا, متصلّبا, كنت دائما تعلّل رفضك للزواج بقولك لهما إنّك تبحث عن الفتاة المناسبة و الحقيقة إنّك غيرقادر على الزواج لقلّة المال, و ضيق ذات اليدّ... و في يوم تذكره دعتك أمّك إلى جانبها و قالت لك بصراحة:

 - سنوات يا وليدي وأنت تبحث عن الفتاة المناسبة فما وجدتها لماذا؟ و القرية ملآى بهن لماذا يا و ليدي لماذا؟؟.

و عدّدت لك البعض منهن.. إبنة عمّك نجاح.. إبنة خالتك المعلّمة وإبنة الحاج الصّادق هادية و غيرهن... لكنّك كنت سادرا لا تريم, و لا تحرّك طرفا, و لا تبدي رأيا, فغضبت أمّك و غصّت بريقها,و انهالت الدموع على خد ّيها و تعكّر حالها فكاد يقضى عليها, لولا إسراعك باستدعاء طبيب القرية الذّي أنقذ الموقف... يومها فكّرت طويلا.. واحترت لكنّ لا مفرّ و رضخت للأمر ثمّ أعلنت لها موافقتك, و قلت لها مطيّبا خاطرها معلنا قرارك..

 - سامحيني ياأمّي سامحيني الحقّ عليّ..

و رحت تقبّل يدها مرّة و جبينها مرّة ثمّ أضفت..

 - ما رأيك يا يأمّي لو نذهب يوم الجمعة القادم و نخطب...

لم تصدّق المسكينة ما سمعته منك, ولمّا أكّدت لها ذلك إبتسمت و كانت قليلا ما تبتسم ,و ضجّت بالفرحة ,و برقت عيناها بهجة و أشرق محيّاها نورا..سألتك :

 - قل ياوليدي .. قل لي من هي؟:

 - حياة يا أمّي.. حياة إبنة الحاج المبروك...

 - نعم الإختيار يا وليدي و نعم الدّار.. يوم الجمعة إن شاء الله نذهب و نخطب...

ثمّ احتضنتك كطفل صغير, و قبّلتك كثيرا ,و دعت لك بالصلاح و التوفيق.. و خرجت من عندها وهي في أسعد حال و أوفر صحّة...

وجاء يوم الجمعة لكنّك لم تذهب لتخطب بل ذهبت إلى المقبرة لتزور قبر والدتك المسكينة التّي رحلت بعيدا بعيدا تحت التراب, فبكيتها كثيرا ,و حزنت طويلا حتى الندم... و سالت دموعك كما لم تسل من قبل...

 - إنّها قادمة...إنّها هي..

 - من... من؟؟؟.

 هكذا سألت ثمّ انتبهت إلى الشّخص الذّي يقف بجانبك و هو يشير إلى الحافلة القادمة, و بدون أن تشعر إمتدّت يدك إلى دموعك السائلة على خدّيك تمسحها.. ثمّ ركبت الحافلة و مضيت إلى عملك ككلّ يوم..