دَمٌ وخُبز 21
قصص أقصر من القصيرة (21)
فصلُ قصةٍ حقيقيةٍ من قصص جريمة المجزرة الكبرى في حماة 1982م
نظر (مجدٌ) بعينيه الطفوليّتَيْن الخضراوَيْن الدامعتَيْن، إلى وجه أمه الشاحب.. متسائلاً:
ـ لماذا يا أمي؟!.. لماذا قتلوا أبي، وذبحوا أختي الحبيبة (ماجدة) التي كانت تلعب معي؟!.. ولماذا ذبحوا (عصاماً)، أخي الكبير.. بعد أن اعتقلوه؟!.. ولماذا لم يبقَ لدينا طعام في دارنا؟!.. هل أنتِ جائعة مثلي يا أمي؟!..
نظرت (أم عصامٍ) إلى وجه طفلها (مجد)، محملقةً في عينَيْه الحائرتَيْن اللتَيْن تعكسان حُزنَ سنواتِ عمره التسع.. نظرت حائرةً مُشفِقة، لا تدري بماذا ستجيبُ صغيرَها الغضّ.. قالت له:
ـ لا تُشغل فكركَ يا حبيبي، ادعُ الله فحسب: اللهم أهلك الظالمين، ورُدّ كيدهم عنا، وارحم شهداءنا وشهداء المسلمين، وشهداء الشام، وشهداء حماة.. اللهم فرِّج عنا ما نحن فيه.. اللهم..
قاطعها (مجد) صائحاً:
ـ ماما.. اسمعي يا ماما.. أصوات أولاد الحارة يَجْرون وراء سيارة الخبز.. خبز يا أمي.. خبز.. إني جائع منذ ليلَتَيْن.. وأنتِ جائعة يا أمي.. أريد نقوداً لأشتري الخبز.. أخيراً سنأكل يا أمي.. لن نموت جوعاً.. سنأكل الخبز!..
أخرجت (أم عصامٍ) خمسَ ليراتٍ من محفظتها، وحثّت صغيرها على الإسراع قبل أن تغادرَ سيارةُ الخبز حارَتَهم:
ـ خُذ يا (مجد).. وأسرع.. وانتبه جيداً.. وعُد ببعض الأرغفة.. الله يحميك يا حبيبي!..
انضمَّ (مجد) إلى أولاد الحارة الذين يركضون باتجاه سيارة الخبز، التي غادرت الحيَّ بسرعةٍ إلى الشارع الرئيسيّ المجاور.. حيث مصفَّحات الميليشيات الحكومية التي تحتل كلَّ زواياه!.. تقاسم عشرات الأطفال -وهم يلهثون- آخرَ ما تحمله السيارة من الخبز.. كل طفلٍ حصل على خمسة أرغفة.. وبعضهم بدأ يقضم الخبزَ بِنَهَمٍ وشَغَف.. فيما تعالى صوت ضابطٍ من ضبّاط الحرس الجمهوريّ برتبة مقدَّم:
ـ قفوا.. قفوا.. يا أولاد.. يا أوغاد.. ماذا تفعلون هنا؟!.. ألا تعرفون أنّ التجوَّلَ ممنوع يا أولاد الكلب!..
اختلست (أم عصامٍ) نظرةً من نافذة البهو.. إلى زقاق الحيّ، حائرةً.. قلقةً.. خائفةً.. متمتمة:
ـ لقد تأخّرتَ يا (مجد).. تأخّرتَ يا ولدي كثيراً!..
دوّى صوت انفجارٍ شديد.. تَبِعَتْه صَلياتُ رشاشاتٍ غزيرة.. فأحسّت (أم عصامٍ) بدوارٍ مفاجئ، لكنها تَمَالَكَت نفسَهَا، وخرجت راكضةً مع جاراتها الهَلِعات، للاطمئنان على أطفالهنّ.. بعض الأطفال قادمون من بعيد، راكضين باكين مذهولين، وثلاثة منهم ما تزال النيران تشتعل في ثيابهم وهم يصرخون:
ـ الضابط.. العساكر.. قتلوا الأولاد.. يريدون قتلنا.. أنقذونا..!..
ارتمى (مجد) متهالكاً في حُضن أمه المذهولة، ونظر إلى وجهها بعينَيْن خضراوَيْن ثاقِبتَيْن، والدماء تسيل من أذنيه ووجهه وعُنُقه، ملطِّخةً رغيفاً من الخبز يتشبَّث به ويضمّه إلى صدره بين ذراعَيْه النحيلَتَيْن.. ركّز نظراته إلى عَيْنَيْها الخائفتَيْن، ثم ابتسم وقال:
ـ أمي.. حبيبتي.. خذي هذا الرغيف.. لم أستطع أن أحتفظَ بغيره، أرجوكِ لا تموتي جوعاً، ابقي معي.. نظّفيه من الدم.. وكُلِيه!.. ردّدها مرةً ثانية.. ثم أغمض عينَيْه الخضراوَيْن بهدوء.. وصَمَتَ مبتسماً.. صَمَتَ إلى الأبد!..
قصص أقصر من القصيرة (21)
فصلُ قصةٍ حقيقيةٍ من قصص جريمة المجزرة الكبرى في حماة 1982م
دَمٌ وخُبز
بقلم: الدكتور محمد بسام يوسف – عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام
نظر (مجدٌ) بعينيه الطفوليّتَيْن الخضراوَيْن الدامعتَيْن، إلى وجه أمه الشاحب.. متسائلاً:
ـ لماذا يا أمي؟!.. لماذا قتلوا أبي، وذبحوا أختي الحبيبة (ماجدة) التي كانت تلعب معي؟!.. ولماذا ذبحوا (عصاماً)، أخي الكبير.. بعد أن اعتقلوه؟!.. ولماذا لم يبقَ لدينا طعام في دارنا؟!.. هل أنتِ جائعة مثلي يا أمي؟!..
نظرت (أم عصامٍ) إلى وجه طفلها (مجد)، محملقةً في عينَيْه الحائرتَيْن اللتَيْن تعكسان حُزنَ سنواتِ عمره التسع.. نظرت حائرةً مُشفِقة، لا تدري بماذا ستجيبُ صغيرَها الغضّ.. قالت له:
ـ لا تُشغل فكركَ يا حبيبي، ادعُ الله فحسب: اللهم أهلك الظالمين، ورُدّ كيدهم عنا، وارحم شهداءنا وشهداء المسلمين، وشهداء الشام، وشهداء حماة.. اللهم فرِّج عنا ما نحن فيه.. اللهم..
قاطعها (مجد) صائحاً:
ـ ماما.. اسمعي يا ماما.. أصوات أولاد الحارة يَجْرون وراء سيارة الخبز.. خبز يا أمي.. خبز.. إني جائع منذ ليلَتَيْن.. وأنتِ جائعة يا أمي.. أريد نقوداً لأشتري الخبز.. أخيراً سنأكل يا أمي.. لن نموت جوعاً.. سنأكل الخبز!..
أخرجت (أم عصامٍ) خمسَ ليراتٍ من محفظتها، وحثّت صغيرها على الإسراع قبل أن تغادرَ سيارةُ الخبز حارَتَهم:
ـ خُذ يا (مجد).. وأسرع.. وانتبه جيداً.. وعُد ببعض الأرغفة.. الله يحميك يا حبيبي!..
انضمَّ (مجد) إلى أولاد الحارة الذين يركضون باتجاه سيارة الخبز، التي غادرت الحيَّ بسرعةٍ إلى الشارع الرئيسيّ المجاور.. حيث مصفَّحات الميليشيات الحكومية التي تحتل كلَّ زواياه!.. تقاسم عشرات الأطفال -وهم يلهثون- آخرَ ما تحمله السيارة من الخبز.. كل طفلٍ حصل على خمسة أرغفة.. وبعضهم بدأ يقضم الخبزَ بِنَهَمٍ وشَغَف.. فيما تعالى صوت ضابطٍ من ضبّاط الحرس الجمهوريّ برتبة مقدَّم:
ـ قفوا.. قفوا.. يا أولاد.. يا أوغاد.. ماذا تفعلون هنا؟!.. ألا تعرفون أنّ التجوَّلَ ممنوع يا أولاد الكلب!..
اختلست (أم عصامٍ) نظرةً من نافذة البهو.. إلى زقاق الحيّ، حائرةً.. قلقةً.. خائفةً.. متمتمة:
ـ لقد تأخّرتَ يا (مجد).. تأخّرتَ يا ولدي كثيراً!..
دوّى صوت انفجارٍ شديد.. تَبِعَتْه صَلياتُ رشاشاتٍ غزيرة.. فأحسّت (أم عصامٍ) بدوارٍ مفاجئ، لكنها تَمَالَكَت نفسَهَا، وخرجت راكضةً مع جاراتها الهَلِعات، للاطمئنان على أطفالهنّ.. بعض الأطفال قادمون من بعيد، راكضين باكين مذهولين، وثلاثة منهم ما تزال النيران تشتعل في ثيابهم وهم يصرخون:
ـ الضابط.. العساكر.. قتلوا الأولاد.. يريدون قتلنا.. أنقذونا..!..
ارتمى (مجد) متهالكاً في حُضن أمه المذهولة، ونظر إلى وجهها بعينَيْن خضراوَيْن ثاقِبتَيْن، والدماء تسيل من أذنيه ووجهه وعُنُقه، ملطِّخةً رغيفاً من الخبز يتشبَّث به ويضمّه إلى صدره بين ذراعَيْه النحيلَتَيْن.. ركّز نظراته إلى عَيْنَيْها الخائفتَيْن، ثم ابتسم وقال:
ـ أمي.. حبيبتي.. خذي هذا الرغيف.. لم أستطع أن أحتفظَ بغيره، أرجوكِ لا تموتي جوعاً، ابقي معي.. نظّفيه من الدم.. وكُلِيه!.. ردّدها مرةً ثانية.. ثم أغمض عينَيْه الخضراوَيْن بهدوء.. وصَمَتَ مبتسماً.. صَمَتَ إلى الأبد!..
وسوم: العدد 1068