آمالٌ

في مخاضها الثالث عشر كانت ولادتها شبه عسرة، ولكنها كانت تتنظر بلهفة صرخة مولودتها التي اتفقت مع زوجها "أبي العبد" أن يسمياها سارة. لم يحضر الوالد احتفالية قدوم المولودة الثالثة عشرة والأخيرة لعائلته لأنه كان مشغولاً بأسفار وتنقلات في سبيل القضية الفلسطينية التي نذرا روحيهما لها؛ فالأم ربَّة البيت – أباً وأماً- وهو بدوره أب لفلسطين؛ فقد تزوج القضية وعشقها عشقا جمَّاً، واطمأن إلى أن زوجه أم العبد قادرة على إدارة أعباء الأسرة، سيَّما وأن له أولاداً كباراً، "فعبد السلام" نجله البكر قد كبر وإخوته، وصاروا للأم عونا على تربية من يصغرونهم، وخاصة المحبوبة سارة التي تصغره بحوالي ربع قرن من الزمن.

وهذا هو العدد المتوسط للأسرة الغزية، فرقم مواليد (13) خارج غزة قد يبدو مهولاً، ولكنه هناك من هنَّ أنجبن مواليد أكثر من أم العبد في أرض غزة الولود؛ فعدد 15 و 16 وارد في قوائم الأسر الغزية، وفي لوائح دوائر الأحوال الشخصية الغزاوية الثَّرَّة المعطاءة.

انفجار سكاني يضاهئ ذلكم الذي في الصين والهند؛ فلعل نسبة التكاثر الغزي هو الأعلى عالمياً، ولعل نسبة الاكتظاظ السكاني طُراً هو الأول عالمياً لعدد سكان يزيد عن مليوني شخص على رقعة جغرافية لا تتعدى (360) كيلو متر مربع .... فقط لا غير!

ولأن أبا العبد لا يحطُّ عصا الترحال إلا قليلاً؛ فقد احتملت الأم وليدتها وذهبت إلى أبيها، ليحنكها ويؤذن في رُوْعها، ويدعو لها، ويكرمها "بنقوط" الوليدة الجديدة، وفي هذه المرة فإن الجد -الذي يعمل تاجراً في صيد السمك- قد أولع بسارة الحبيبة، بل إنها شغفته حبَّاً.

الجد بحنكته تفرس أن سارة ستكون المولودة الأخيرة لابنته الأثيرة آمال؛ فقد تجاوزت المرأة الأربعين؛ لذا خصَّ سارة بهدية هي ضعف ما كان يهدي للإثني عشر قمراً قبلها.

وعندما عاد الأب أبو العبد من سفره المضني وقع حب سارة في قلبه مثل ما أصاب قلب الجد من شغف، وشبهاً بحب يعقوب لابنه يوسف؛ وباتت مدللته المحبوبة، ولكن كثرة انشغالاته في عالم السياسة لم يسمح لذلكمُ الشغف بأن يتنامى، بل توقف عند حد لم يشغل الإخوة الآخرين فيكيدوا لسارة كيداً!!

ولم تكُ أيام آمال كلها مفعمة بالآمال الوردية، فعين الصهاينة على زوجها دوماً كهدف إستراتيجي؛ ليكون من العصافير التي أدرجتهم أجهزة إسرائيل الماكرة على قائمة الاصطياد حتى الموت ... وفي ثلاث محاولات اغتيال نجا أبو العبد من فوهة بندقية الصياد اللئيم؛ وفي كل مرة تكون فرحة سارة الصغيرة بنجاة والدها من كيد يهود تعادل فرحات الأم وأولادها الإثني عشر!!!

*******

في صبيحة يوم عيد الفطر "غير السعيد" كانت أم العبد قد أعدت كعك العيد – رغم الحرب الطاحنة في غزة- ليس استجابة لنداء قلب أم قد تفطَّر فؤادها بالحرب، بل بقلب الجدة الرؤوم التي ترى حفدة كزغب القطا يفرحون بالعيد، ولو على صوت أزيز الرصاص ولعلة الصواريخ الصهيونية الكاشحة .. تراهم على شاشات الفضائيات فقط!

لقد التمَّ شمل العائلة في مخيلة الجدة والأم، وكانت هي واسطة العِقد حين زارها الأبناء وأولادهم صبيحة هذا العيد، ولكن أبا العبد كالعادة غير موجود، فهو يتنقل بين العواصم العربية والإسلامية لإعداد خطة لإطفاء حقد هذه النار المستعرة على غزة الجريحة. تصورت الأم – وهي المقيمة في إستنبول- بأن الجميع قد تحلقوا حولها، فقامت بإعطائهم العيدية، وأكلوا من حلواها الشهية؛ وهي تتابع أخبار الحرب الضروس بين المقاومة الفلسطينية وأحفاد القردة والخنازير في فلسطين.

وبينا هي على هذه الحال؛ إذ بالخبر غير السَّارِّ يتصدر شاشات العالم: " مقتل ثلاثة من أبناء إسماعيل هنية وثلاثة من أحفاده"!! وقع الخبر عليها كسقوط صاروخ كروز بالستيٍّ محشوٍ برأس نووي كيمياوي ... جرثومي!!!

وما راعها أكثر أن طائرة مسيرة صهيونية لدودة هي من استهدفت عائلتها؛ وهم ذاهبون بسيارتهم الخاصة إلى أهليهم للمعايدة صبيحة أول يوم من أيام عيد الفطر (السعيد)؛ في مخيم الشاطئ بغزة الحبيبة المتألمة، حيث ولدوا جميعاً!

ثم عرضت شاشات التلفزة الدولية صورة زوجها أبي العبد؛ وكان مرافقه يعرض عليه من شاشة تلفونه الخليوي صور أبنائه وأحفاده الشهداء، فما كان من هذا الجبل الشمِّ إلا أن قال قولته التي ذهبت مثلاً للأجيال: " اللهْ يسَهِّلْ عليهمْ " ! ثم أتبع قائلاً لمرافقه الذي يمشي معه في أحد ممرات مشفى قَطَري يُعالج فيه بعض الجرحى الغزيين: " يالله .. خلينا نكمِّلْ جولتنا على باقي الجرحى "!! وكأن ستة من فلذات الأكباد لم يقتلهم العدو المجرم اللدود بسابق الترصد الأَسود؟!

وبعد أقل من أسبوع فُجعت أم العبد بعد أن انتهى موسم استقبال المعزين بوفاة حفيدتها "ملاك"؛ وقد كانت جريحة في ذلكم الحادث، وعاشت أسبوعاً ثم لحقت بأبها وعميها وأولادهما إلى أعالي ... أعالي السماء ... فوق السابعة؛ فازدادت آمالُ غمَّاً على غمٍّ!!

sfghdfh10901.jpg

هذه الملاك كانت أثيرة جدتها أم العبد؛ وقد رحلت إثر أبيها الابن البار الأَثير طُراً، ولكن شآبيب السُّلوان قد هطلت على الجدة آمال؛ فوفَّرت كثيراً من سيول التوجُّد والحرمان.

لم تنقطع آمالُ آمالٍ بالنصر والتمكين؛ فهي مواظبة على متابعة آخر أخبار المجاهدين أولا بأول، من كل مواقع التواصل وشاشات التلفزة، وخيط الأمل بالله لا يمكن أن ينقطع، وحبل الرجاء مع السماء عُراه وثيقة ومغلَّظة.

ولكنَّ سرادق العزاء أبى إلا أن يظل معقودا في دار "هنيَّة" ؛ ففي موهن ليل طهرانيٍّ دامس انسلَّ صاروخ أثيم إلى دار إقامة أبي العبد هنيَّة في إيران، وأحاله مِزعاً مع مرافقه الحارس الشخصي له؛ فراح كل شِلو منهما يبحث عن أخيه الضائع!!

لم ينقطع أمل آمال بربها وشعبها وثورتها التي وهَبَت هي وزوجها أبو العبد حياتهما فداءها؛ فقالت زوجة هنيَّة وهي تودِّع جثمان زوجها بكلمات مؤثِّرة: "سلِّم على كل شهداء غزة يا حبيبي، حبيبي أنت في الدنيا والآخرة ...الله يرضى عليك ... ويْحَنِنْ عليك ... ويْسَهِّلْ عليك يا حبيبي .. وأنت سندي في الدنيا والآخرة ...."!!!!!

 

sfghdfh10902.jpg

 

أما سارة الابنة الأَثيرة إلى روح أبيها المتوثبة للجنان، فقد كتبت على موقعها على إحدى منصات التواصل: "كسرتْ ضهري يابا .... وين رحْت وسِبْت حبيبة قلبك سارة "؟؟! ثم كتبت لأمها أيضاً تعزيها وتهدهدها: " هنيئا لك يا أمي هذا الشرف العظيم زوجة الشهيد والدة الشهداء ست الشهداء أخت الشهداء وعمة الشهداء الصابرة المحتسبة رفيقة درب والدنا وسنده في كل محطات حياته في حلوها ومرها ارفعي رأسك عاليا فقد اصطفى الله منا الشهداء وهذا من رضاه علينا."!!!!

وَرَثَتْه "إيناس" إحدى كِناته بقولها: " «بقلوب راضية بقضاء الله وقدره، أنعي رجلاً تضج الأرض والسماء بطيب ذكره؛ رجلاً غنياً عن التعريف. أنعى عمي وحبيبي وأبي وتاج رأسي وقرّة عيني العم أبو العبد هنية، ليلتحق بركب المجاهدين والصادقين والميامين بهذه الدماء الزكية»!!!!!!

عائلة تربت على أخلاق الشهيد والشهادة، على تراب ألف الشهادة وتعشقها؛ قد استقبلت جثمان القائد الفقيد بالزغاريد والحوقلات، وساعة انقطعت آمالهم بجسد فقد الروح تمتَّنت آمالهم بربِّ السماء؛ من اصطفى هذا الرَّوح الشفيف إلى عليائه.

قالها أبو العبد هنية حين التقط خبر استشهاد أبنائه وأحفاده السبعة، ثم ردَّدتها زوجه آمال هنيَّة حرفاً؛ بحرف وهي تودِّع جثمانه المفعم بالآمال: " اللهْ يْسَهِّلْ عليك يا حبيبي "!

وجلست آمال تستعرض شريط الذكريات في مخيالها الذي تصطرع فيه الآلام والآمال؛ فاستذكرت يوم كان زوجها الحبيب أبو العبد عميدا في الجامعة الإسلامية بغزة، ثم لما قُصفت هذه الجامعة المحملة بالآمال قبل عشر سنين بالضبط؛ من قِبل للُّدِّ من قوات الصهيونية الغشَّامة.

يا أيتها العائلة " الهنيَّة ": ارجعي لربك راضية مرضيَّة ..... فادخلي في عباد الله الرحيم الرحمن .... وادخلي جنة عرضها السماوات والأرض؛ أُعدَّت للذين جاهدوا في سبيله.

شهيدٌ إِثر شهيد .... وقوافل التضحيات تترى .... وآمال الأمة تتعاظم في فتية آمنوا بربهم فزادهم هدى، وآمالُ ترقب من على الدور من عائلتها ليكون أتون صاروخ لئيم كاشحٍ لدود؟!

sfghdfh10903.jpg

2/8/2024

 

 

sfghdfh10904.jpg

سارة وعمرها 13 سنة تشارك في مظاهرة بغزة

وسوم: العدد 1090