مِن العسير والصعب
ربما النظرات البعيدة الخفيّة عنه هي التي أشعرته بشيء يحدث.
رفع الرجل الكبير في العمر، عاديّ الملبس الذي لا يلفت اهتمام أحد، رأسَه عن الوعاء الاسطواني الممتلئ. كان قد نبش قمته بسرعة وخلسة بين المشاة على الرصيف في أقل من ثانيتين فقط، وعدل عن نبشه أكثر. حين رفع بصره رأى وجه الشابّة الثلاثينية تحدّق إليه من نافذة السيّارة القريبة على المقعد المجاور للسائق.
كان الاكتظاظ المروري بجوار المخيم الذي يهرب ساكنوه من الاجتياح صعبا، وسيّارتها التي يفصلها عنه حاجز معدني لا تتقدّم. أخذت تؤشر له بذراعها الخارجة من النافذة وأصابعها أن تعال.
تمالك نفسه في هول المباغتة وتجاهلها على أمل أن تتجاهله، ومضى خطوتين، فصارت تنادي بصوت واضح: تعال.. تعال!
بعد خطوتين أخريين استدار لها مضطراً ونظر في وجهها. إن كان للجمال نسبة مئوية، فجمالها هي في حدود السبعين، مع الفستان الأحمر. ملامحها ليست غريبة ولربما عرفها في مكان ما يوماً ما وعرفته، وفي هذه الحالة عليه أن يُخمِد الحدث بسرعة. من خلف حاجز المشاة الذي يفصل بينهما، أخفض لها رأسه في إشارة احترام وعاد لطريقه.
لم يعجبها تجاهله أو احترامه فنادت بكلمات أخرى مرتفعة عليه. وليصرف الانتباه المؤذي الذي قد يتجمّع من أصحاب المحلات والمارّة، عاد إليها بوجهه مرة ثالثة.
إنها تملأ يدها بقطع النقود تريها له ببديهية قد أظهرت غايتها، فيهزّ رأسه لها بثبات، رافضاً رافعاً كفه شاكراً.
صعب عليها أن تعرف ما يفعله من لمحة واحدة، ولا بد أنها رأته أكثر من مرة. هذا الذي أخذ يعتمل في صدره ويؤذيه.
من العسير عليه التوضيح ومن الصعب عليها أن تفهم، أنه لا يقبل محض الاحتياج لها أو لأحد، وأنه يستطيع -في كل الظروف- تدبّر نفسه.
كان في عينيها المتجمّدتين أعلى يدها الممدودة خيبة أمل كأنها انطفاء أحسّ به ولم يفهمه وبقي يتسبب له بتساؤل: أكانت تستند للبديهيّ -في مثل حالته- لا تفهم رفضه نقودها، أم لها معرفة سابقة به؟
بعد أن فكّر في وضع البلد العام والمخيمات المستهدفة وحالة الناس بين التشرد والبطالة، استنتج أن أمره معها هيّن سُينسى بسرعة؛ ولكنه، يا سيدة، قال في نفسه ضاحكاً: "لو كان سيتسوّل شيئاً منك، لطلب ابتسامة أو قُبلة"!
وسوم: العدد 1119