ابنة الحرام
مظهره، بل هو كلّه، ليس فيه ما يُغري. إنّه عادي جداً، ثيابه مستعملة ليس لها طراز أو ماركة، من النوع الرتيب الذي يشي بعدم الاهتمام إلا بالسِتر والتدفئة. ومن المؤكّد أنه ليس بالغني. فإذا رقّ قلبه لسائل أو سائلة في مكان ما، فليس في وسعه التصدّق إلا بقطع نقدية قليلة. كان يفعل ذلك على فترات متباعدة، ذلك أنه هو نفسه، مثل عشرات الآلاف في المدينة ومئات الآلاف في البلد، يعاني من الضائقة العامة.
لم يكن ينظر إليها. لمحها عن مسافة عشرين مترا وفهم ما عليه، تقتعد الأرض متربعة بثوبها، تسأل المارّة وتدعو لهم بالبركة في الأولاد ونماء المال ودفع الحاجة. ولأنه يعرف أن الدعاء فيه أجر، إذا كان خاليا من المال أو لا ينوي التصدّق، فإنه يكتفي بأن يدعو لها أو لغيرها، في سرّه.
لما وازاها في المكان الذي اختارته تسند ظهرها جالسة، بين جذع الشجرة والسور الذي يحدّ الرصيف خلفها، والمارّة كثيرون يعبرون، مثله هو العابر الذي لا شيء فيه يغري، هتفت بصوت عادي ليس فيه أثر استعطاف:
- الله يبعد عنّك بنات الحرام.
سمع كل أنواع الدعاء من المتسولين من الجنسين، وهذه هي المرّة الأولى.
لم تكرر ولم تستعطف بالالحاح. استغرب وأمّن على دعائها فردّه لها في سرّه وواصل. ليس في حياته لا بنت حلال ولا بنت حرام ولا يكلّم واحدة على الاطلاق. هل رأت فيه، ذاهباً عائداً، ما يشير إلى حاجته لابنة حلال تعتني بمظهره؟
إنّه يفكّر في هذا، ولكنه لا يجد التي يمكنها أن تصمد معه وتفهم دنياه.
هل لديها تصوّر أن ابنة حرام أو أكثر، تستهدفه؟
الاحتمالات لا بد موجودة، لكن لا شيء يمكنه أن يحصل لأنه، بعزل نفسه، سلّط الضوء أمام الناس على مَن قد تقترب، وسيخضعها بالتالي لعشرات الاختبارات. لم تكن تحدّثه عن شيء إلا امرأة لها غاية، بائعة أو مسترشدة أو موظفة. الكلام على قدره.
هل تعتقد أنه ضعيف إلى حد أنه قد يقع فريسة؟
خواطره كأي رجل لا تخلو، لكنه متحكم بنفسه، لا يخشى ولو كان عاريا بين دزينة من الغواني المحترفات. لكن ضعفه في داخله، تفكيره. فلما عزل نفسه، صار من المستحيل أن يتورّط، وإن تبقت له الصبوات والفضول.
استدار مدفوعا بقوّة لينظر في وجهها. لا شيء، لم يرها من قبل ولا يعرف من هي، وكانت ملامحها عادية.
أمثالها خلفهن حكايات معقّدة. بعضهن يكون ظرفهن اللحظي من السوء وأحاط بهن من كل ناحية، دون معيل، بحيث يدعن كل اعتبار -اجتماعي أو عائلي أو شخصي- ويطلبن المساعدة، ولكنهنّ لا يجعلنه طريقة جمع للمال أو مهنة أو عادة، فقط لدفع الضائقة، واسلوبهن في الطلب مختلف تماما، بسيط ومرتجل وغير متكرر.
منهن ذكية شابة أنيقة بجلبابها لفتت نظره ولجأت لبيع حلوى انتقائية جداً غالية على إشارة مرور، وكانت تعترض أصحاب المركبات العصرية المتوقفة، تبيعهم وفي الحقيقة تتسوّل. عرف فيما بعد أنها جامعية قادمة من غزة قادتها ظروفها للمدينة، فبقيت فيها ولم تعد، متجاوزة زمن التصريح نفسه.
وأخريات عندهن طريقة حياة، كبيرات وعجائز، معروفات للجميع من القرى والمخيمات المجاورة، لا شيء يفعلنه في الدنيا وينتهزن أي فرصة للحصول على مال، ويجعلنه صفة للحياة وتعريفا ومشاركة اجتماعية.
أمّا النصّابات، وخلفهن ما يخيف من شبكات متنوّعة للسرقة والاحتيال وجمع الأخبار والمراقبة، وربما للتعطيل المتعمّد على المحتاجات الحقيقيات، فغريبات خفيات متخفّيات خفيفات الحركة بالبراقع والخُمر، ولا يقتصرن على التسوّل فقط، وسرعان ما ينكشف بعضهن في أخبار جنائية.
والغريبات العجيبات خلف المعاناة خبيرات بحكمة ذات استثناء. يعرفن من الحياة ما لا يخطر على بال انسان عادي، ولهن زاوية في الدنيا مختلفة، وخلف التسوّل الذي هو للحصول على مال، دور قد يقمن به، في وسط من الأسرار والتصارع. لا يهتممن -في القاع الاضطراري- إلا بأنفسهن، ليتمكنّ من العيش.
هذه انتقت المكان ولم تكن تطمع في شيء لديه. أحسّ أنها تعرف شيئاً ولديها اطلاع عليه وعلى غيره وأنها ترسل له رسالة. هذا يعني أن هناك ما هو شائع في أوساط سفلية. أحصى القليل الذي يملكه واقتسمه نصفين، أعاد نصفه إلى جيبه، وقبض على النصف الآخر بيده. تعمّد أن يتمهل في المشي لينبهها إلى اقترابه والتفتت اليه بنظرة جانبية. ملامحها العادية غير ملتاعة ولا طامعة ولا مستغربة ولا خائفة.
لم يضع القطع النقدية في يدها مباشرة، إنما على الأرض أمامها، ومضى في سبيله. لم تقل شيئاً كأن تدعو له ولا كان هو ينتظر الدعاء.
وقت طويل جداً مضى عليه مبتعداً عن أي شخص، كيلا تتداخل التفاصيل والضرورات والانشغالات والاندفاعات بما يتسلل إليه خلسة ويؤدي إلى التقاطع مع ابنة حرام، أميرة للعالم السفلي، والدها الحقيقي المتوحّش العنيف طويل اليد، سبق له أن بطش بالكثيرين، ولا يزال تأثيره موجوداً حتى بعد موته ودفنه في قبر الزخرف..
خلف ابتسامته المهذّبة في عيني الثعلب تحت النظارة، ولطف وجهه المتجمّد مع شهرته، كما في البوسترات المنتشرة، عضات الضبع القاتلة.
لقد التقى به مرّتين عابرتين، وبَلَغه في حينه أنه استفسر عنه، لشيء قاله..
بسببه، خاصة بعد أن اكتشف ما اكتشف، عرف أنه لن يستطيع النجاة إلا بتجنّب كل "مبنى" له فيها طرف (وما أكثر الأطراف!) وأن يعيش كالشخص العادي، متخلّياً عن أي تميّز في أي طموح. والبقية تركها لله.
لقد حرص بعدها في مروره على رؤية أثره فيها، المرأة التي على الرصيف، إذا ما اقترب من مكانها، دون أن تنتبه. فكانت تغيب في بعض الأوقات، وتتواجد في أخرى، وتُجمّد اتجاه وجهها عند الاقتراب بحيث لا تلتقي العيون أبدا. المؤكّد بعد شهور صارت سنوات أنها لم تسأله ثانية او تستعطفه أو تهتف بشيء، كأنها أخطأت في قولها أو قالت ما لديها، ففهم..
عليه، أكثر وأكثر، أن يحرص من بنات الحرام، في الأرض المقدّسة.
وسوم: العدد 1121