امشاج الثانية

ماجد عاطف

(1)

في المسجد العتيق جمعت بين ايمانين. كنت أشيح النظر عن نَورِ بعباءات، وأتعمد ألا أرى وجوههم. المسجد فرض، نَفس وحرمة وتقديس، ملحٌ للارتياح.

ابنتهم تحوّلت إلى حمامة، تقول الأغنية، من ثم صارت روحا: تعيش بجسمها في مكان، بينهم ربما، وترفرف على المبسوطة بكيانها. حيثما وجدت بشرا، حلّت فيه.

لا أعرف عن الأغنيات هذه، ولا عن صدقها أو كذبها. على كبر أخذت اصدّق، لأنني عانيت وشعرت.

لا يهم إن لم يصدق أحد. كففت عن الاكتراث.

مرّة أتت، وكنت في بيت أهلي الفارغ. أتاني، من أذن تتجاوز رأسي، صوت خفي بعيد في الحيّ أنها تقترب. كانت، بطريقة ما، معروفة للناس أنها (البيضاء). الذي تصيبه قد تقتله. يقولون أنها ماتت قتلا، وأن روحها تتنقل بين البشر لتنتقم.

خرافات كتابية وشعوذات ومعتقدات تسري بين السذّج.

لا أشباح في ديننا،

وبينما أنا اقف أمام الباب الحديدي للصالة، أحسست بوجودها وأصابني مسّ كهربائي أو صعقة، شملت كامل جسمي.

انتفضت. توقّف شعر الرأس. يا الهي ما أوجع الصعقة! تهزّ لحظتك هزّا وتصعد بك الى أسوأ ذعرك، وتنفضك عن سياقك. ارتعبتُ وأخذت اكبّر، ففرت بعيدا بسرعة.

///

في المسجد العتيق كانت تستطيع التسلل. غير أنها، هي أو نسخة عنها أو جانب، تتحول إلى كيان آخر. أهلها النور يحاولون أن يظهروا في الصورة، فكنت اشيح عنهم بوجهي ولا أنظر في وجوههم.

وأين يمكنني الاحتماء والاطمئنان في غير بيت الله؟

لا: صحيح أنها تكلّمني من داخلي، لكن بيننا أيضاً ما يشبه النفق من الاتفاق: لا تستطيع أن تلج إلا اذا سمحت لها.

ثم أن المحتوى يعلم الله نظافته. وكيلا أتواطأ معها، لم أكن أرد عليها في سرّي، فكري، مع أنني استطيع، إنما بصوتي الذي يسمعه الآخرون من المصلين والمشاة وغيرهم.

وخفت من الرد الداخلي وأن أغرق في الداخل فلا أخرج. جربت الأمر أطوارا: قبول حديثها الداخلي، كأنه حديث النفس (ربما النفس الأمارة)، والتعاطي معها داخليا، يؤدي إلى أن أعلق. الكرة التي على رأس الآدمي لا تختلف عن الكون، بالرغم من التفاوت في الحجمين: فيها شعاب وهضاب ودهاليز. فيها عوالم موازية. المادة وهم، لكنها ضرورة ووسيط.

الحق هو "من أمر ربي"، الروح.

وبالرغم من تقلّباتها فقد كانت مؤمنة. الانسان يمكنه أن يشرك أو يلحد، أما الأرواح التي من دون أبدان فالغيب لها عالم، وتسلّم بحسب دينها الذي ولدت عليه..

///

عادت أذيال عباءاتهم من تقدمها، وابتعدوا خطوات. صمتُّ حتى تحققت أنهم عبروا العتبة الداخلية القديمة، ليتظاهروا بتأدية الفريضة. النور! عدت لها، هي ايماني الصغير.

آذتني أكثر من مرة. وصرت عندما تهم بفعلها، اكبّر أو أتعوذ بسورة قصيرة. سيطرت عليها هي التي تقترب ومني وتهمس لي، أو ضبطتها.

قالت إنها بلا سكن. وأنها محفوظة سراً في مكان بعيد، وأنها تحتاج جسما تحلّ فيه، لتتمكن من التحرّك.

أتاني من تكريب خفيّ أكثر من نذير: لا تقبل. لا يمكنها دخولك ألا بموافقتك.

كنت احسّ بالخطر، لكني لا أعرف لم أنا، أيضاً، مطمئن. سمّيت وقلت لها: تفضلي. "الآن نحن معا، سأستريح قليلا، أنا متعبة". قالت في داخلي.

أقام الامام الصلاة فنهضتُ من الممر الحديث حيث اعتزلُ الناس، اصلّي المسنون وحدي، واكلّم نفسي. ومع أنه لا يحل ولا يجوز، طالما هي فيّ، نويت الصلاة عنها.

///

صلاة الجماعة، الفجر تحديدا، مريحة: تصغي لتلاوة خارجك تصوّر لك المشاهد الناصعة في عقلك، فتذهب التخيلات. كلما ثبتّ في هيئة الصلاة ازداد خروجك من هاجسك. المعاني يمكنها أن تنفتح لك على نحو جديد: من الآيات التي مرّت عليك، والآية التي تتلى، ينفتح معنى. تفكيرك ليس بمفرداتك أنت بل بكلام الله، وعلى الإيقاع الذي من دون إيقاع. حركات الصلاة تعيدك إلى الضبط والتمرين والتوجيه. قد يفلت منك خشوعك أو تركيزك، لكن الوجهة التي أنت فيها، الصلاة والشعائر، يجعلانك قادرا على أن تتعبد، حتى لو كان فيك ألف وسواس. ولو كانت المشاغل والمخاوف والطارئ، انفسك اللوامة والامّارة، شلالات تنهمر متداخلة داخلك لتربكك، فإنك تستطيع أداء فرضك.

كل روح لفرد من البشر، سحابات تجمع الندى، الروح كحمامة وضباب.

(2)

القمر مكتمل يمشي معنا في الأزقة. العتمة لها قبعات برتقالية، أو مظلات، مريحة. الخفافيش تدور متمايلة فوق أشجار اللوز وقرب السرو تجمع وجباتها المحلّقة، بدأب ولطف. القطط والكائنات تعرف، وتموء لنا. النسمات أيضا. فراش الليل يتبع صوتي ينتقل من إضاءة لإضاءة، فيؤنس. هل أنا لباس لها أم تلبّستني؟ أتراني سكناً تبحث عن ملجأ، أم تستوطن مؤقتا لتحتل؟

ربما كانت نائمة داخلي، كجنين. تركتها تستريح. هدأتُ لما ايقنت أنها معي. زالت التجاعيد عن جبهتي ووجهي، وانشدّت الثنيات. يداي الخشنتان رقّتا. انسجمتُ وتوازنت وشعرت بالاطمئنان. لدي ايمانان: الله والحب. قلت لنفسي.

- ماذا ستفعل ان تعارضا؟

لم أتفاجأ. رددت ببساطة:

- أضحي بالثاني.

- أنت تقول..

- حدثيني عن عالمك.

- لا يمكنك أن تفهمه. ضحيت بجسدي من أجلك، ولم يعد لي الا ثلاثة أيام وأتوقف عن النبض فأموت.

مع أنني لم افهم نصف ما قالته، شعرت بالقلق. لم تخبرني شيئا من هذا. اخذت طلبها ببساطة وطيبة.

- لا افهم.

- أنت تؤمن بالله ومستعد للتضحية بالحب، أما أنا فليس لي الا الحب.

- ألا تؤمنين بالله؟

- الكل يؤمن بشيء.

- صباح الخير يا جار.

لم أعد استحي أو ارتبك من صوتي المسموع في الأزقة المضيئة. سألني أولاد الجيران الذين تطفلوا من سطح البيت ذات عصر، إن كنت مجنونا. أجبت، نعم، والذي امسك به أذبحه واطبخه وآكله. هربوا. رددت:

- صباح النور.

لما ابتعد الجار قلت:

- لم تخبريني..

- في عالمنا، الذي تقبل به يحدد مصيرك.

- لم افهم.

- نحن أهل الدنيا؛ وانت منهم هم.

- هم مَن؟

- المسلمون.

- لماذا ستموتين؟

- هكذا هي القوانين. مثلي تتحوّل إلى آلة، جسدها بطارية، وعقلها طليق. استطيع التنقل بين الأجساد، لكني اخترتك أنت وقبلت بالثمن.

جملتها الأخيرة كانت مختلفة. فهمت أنها لا تستطيع التمادي ما لم أشجعها. منذ وقت طويل توقفت عن خطبة ود انثى. لم أكن من ذلك النوع، لكني، عن غضب، درّبت نفسي فلما نجحت كففت عنه. تحرّجت. لا احب الكلام المحرج ولا التودد ولا المجاملات. دفش كنتشة، كجذع تين يابس، كرفسة حمار المعصرة.

ضَحِكت.

سمعتها. سكن بي رضا وقرّ سرور. ثم ما من كلام ليقال. نحن معا. هذه هي الخلاصة. وفجأة تذكرت كلمتها: "الأجساد".

كم جسدا سَكنت؟

هل يحق لي أن أسأل؟ شعرت بغضب. لم تخبرني بهذا قبلا. لم اسمع صوتها الذي هو فكرة أو رد يتجسدان في الأذن الداخلية. بعد سكوت امتد قليلاً سمعت طمأنة:

- لن ينالك مني شيء. فقط ثلاثة أيام.

(3)

كنا متمددين على السرير نتسامر. أعني كنت متمددا ببدني وحدي بالطبع، ولكنها معي، فيّ. تحدّثنا كيف انتبهت لها، وكيف عرفتها في الأغنيات التي تحكي، وراء التفاصيل الظاهرية، عن طفلة. سألتها:

- كم عمرِك بالمناسبة؟

شعرت أنها تضايقت، لأن جانبي بدأ يتململ. لم تجب.

- هل لك التأثير على جسدي، لأنني استطيع التكبير وقراءة سور من القرآن؟

- لو سمحت، غيّر الموضوع. سيأتي كل شيء في حينه.

غضبت لأنها لم تجبني. نهضت لأعد الفطور. فرمتُ البندورة بسرعة، من غير غسل، وشطفت المقلاة شطفا فقط.

- ليست نظيفة.

علَّقت.

- هذا جسمي.

- احتاج إلى اطعمة معينة.

- مثل ماذا؟

- اللحم.

- لم أشتره لنفسي أبدا. لدي مارتديلا.

- جيد.

وأنا آكل طلبت أن آكل ببطء، وأن امضغ جيدا، ومن دون صوت.

احتججت:

- لك الذوق فقط.

- انا ضيفة..

ثم صمتت. شعرت بالذنب بعد قليل لأنها محقة. فعلت ما طلبته فلا ضرر منه.

- سأخبرك في اليوم الأخير.

فكّرت أن ارقي نفسي واكبّر لأتخلّص مما أنا فيه.

///

لما ذهبت إلى الحمام لم أدر ماذا أفعل. غير التعري السفلي، إني استنجي بالماء، واستبرئ من البول. لم يخطر لي أنها ستشاهد ما أشاهده وستحسّ بكل حواسي. وإذا كانت لديها القدرة على مقاطعة تفكيري أو معرفته، فقد خسرته. ماذا عن ذاكرتي؟

ماذا عن التفكير والعقل؟

وكيف سأعمل في طوبار سقف الورشة وهي فيّ، بعد ساعات؟

جلست على مقعد الحمام صارفا بصري لأعلى كيلا يقع على.. يظل حاسة اللمس.

ثم خطر لي أنها تشبه القرين.

- لست فاهمة بالضبط معنى القرين..

تجاهلتها.

اباح الله هذا للقرين والجن، فلا بد أنه زوّد بالمصل والمضاد.

ولم أتردد. قبل الوضوء استعذت، ثم سميت. وبعدها كبّرت، وقرأت المعوذات.

قالت صوتها يخفت على نحوٍ متباعد كبكاء:

- آلمتني. لكني سأعود.

وذهبتُ إلى عملي. الوسواس، ربما، هو للذي خارجنا يوسوس لدخيلتنا، والخنّاس هو الرابض فينا طوال الوقت، ولكنه يتراجع، يخنس، كلّما تعوذنا منه. والقرين؟ الذي يستهدف كل شخص بعينه؟؟

في الدين أنا من العوام.

///

في الورشة لم استطع أخذ القياسات ولا الطوبار، فطلبت من عامل أن يشتغل مكاني وأنا اشتغل مكانه في اقتلاع المسامير.

كنت أفكّر، وكان عليّ أن أجد طريقة.

(4)

طوال عودتي إلى بيتي، كنت أقرأ المعوذات والصمد. ما إن تقترب حتى تنفجر كفقاعة صابون، وأسمع صوت التفرقع، ثم احسّ بها تسقط على الأرض. ولكنها لا تلبث أن تتجمّع وتعود. في الأثناء كنت أحصل على وقت للتفكير. لم أدر ما هي: وسيلة تقنية عن بُعد تتخلل أمواج الدماغ وتؤثر في الدماغ، خاصة المخيخ، من ثم الجسد؛ أم كيان من الغيب؟

الأشباح لا استطيع أن اصدّق بها. الأرواح نعم. في عالم الرحمن والغيب. وإن اتصلت ففقط في الرؤى والمنامات وبعض التقاطعات في الحياة كفكر الوالد حين يحس بابنه أو الوالدة، أو اللمحة الخاطفة. ما اشهده أكبر. إنّه لمة شيطان، وعقل ثابت: نفح ايجاب. المس والقرين والسحر كلها أمور موجودة في القرآن، لكنها شيطانية ومن الجن، ولا تعريف واضحا لها. أؤمن أنه ما بشر يستطيعها. وطالما الغيب يمكنه أن يلج الواقع، فالأمر متاح للتقليد، لشياطين الانس. علوم البشر كلّها تقليد. إنها القرين، ولكني لا أعرف شيئا عنه ولا أعرف مَن يعرف.

- آلمتني، معي أقل من ثلاثة أيام..

كانت تبكي. قد تستعمل البكاء وتتظاهر به، لكنه أصدق ما فيها: الضعف. رققت.

- اسمح لي بالدخول. سأموت.

- بسم الله. ادخلي.

أحسست بشعور لطيف ذي بياض من نسيم. رأسي، جمجمتي، مسكن؛ وبدني عاد لي وصرت أحس به. في الأوقات العادية أعيش جسمي دون أن التفت له، وتظل خواطري تتخبّط. أما الآن فأحسست به مأوى، مكانا، يمكن الاختباء فيه. يمكننا معاً الاختباء فيه. أجسامنا ليست ملكنا، بل نحن مجرد مسؤولين عنها، إلى أن تستعاد الأمانة. كيف قبلت هي أن تنفصل عن جسمها، وتحوّله لآلة أو بطارية؟

هل في جمجمتي شيء يصل بين الالكتروني والعضوي، أم مجرد أمواج كهرومغناطيسية؟ ولماذا تطلب إذني للدخول؟

- تفكر كثيرا، ولن تفهم إلى أن تشرك.

- أعوذ بالله!

وصوتها يتراجع يخفت، وصلتني كلمتها الحزينة:

- لقد أخرجتني.

الروح من أمر ربي، نفحة ونفخة، وما من شيء يمكنه أن يسيطر عليها. الجسم أمر آخر، قابل للتقييد والحصر والأذى الملموس. ناديت عليها، وكنت وصلت الشرفة ذات الأحجار.

أين أنتِ؟. أنا حولك. هل تحبين الدخول؟. لكن لا تطردني.

- بسم الله. ادخلي.

دخلت. في خيالي الواضح ذي المكان، نفضت شيئا عن ملابسها. إنها فتاة عادية نحو الثلاثين، لا تكبر أبداً، وتلبس بلوزة مشدودة من صوف أصفر، وبنطال طويل. وأنا في الخمسين فقدت الشعور بالزمن، فلم أعد أدري إذا ما كنت مراهقا أو عجوزا. هل رأيتها في مكان واقعي من قبل؟.

- أنا في رأسك، لم تعد لديك أسرار.

- أستطيع صرف التفكير.

- بعض الوقت فقط. ثم يفلت منك. كل شيء يخرج من الداخل وينكشف ذات يوم.

- ليس الأمر أنه من الأسرار، لكن..

لم ترد ولكني رأيت يدها تمسّ شعري/عقلي. تتكور وهي تقترب مني. إنها تحسّ بي، ولا حاجة لشيء آخر. هل فكّرت فيها لدرجة أن تجسّدت لي أم أنها من مستوى مختلف؟

- تكثر التفكير. في اليوم الأخير سأخبرك.

جلست أشرب الشاي على الشرفة. أشرب وتشرب معي. لم أعد أفكر في شيء من الداخل أو الخارج. فقط اتفرج/ نتفرج على الأشجار وخيال العصر الذي يتطاول والشمس التي تنسحب من الساحة باتجاه الغرب.

ثمة قطط تتبع بعضها تمرّ وتتوقف لتنظر اليّ. تصويب وجهها ونظراتها أكثر من مسلك حيوان. في الأفق، المعسكر الغريب ينتصب. على الشارع الرئيس تمرّ السيارات والشاحنات المختلفة والدوريات. يأتي ثغاء أو صوت طلق. الشوارع شقتها البلدية بادعاء التيسير ونثرت أعمدة الإضاءة، لكن مخططاتها غريبة كأنها مصممة للاقتحام والملاحقة.

- لمَ تلاحظ هذا الأشياء؟ لم تهمّك؟

الشوارع الزراعية، مع الجدران والتعمير تبدو للوهلة الأولى كاستصلاح، ثم يمرّ في البال أنها تمهيد للقادم: المعسكر سينقلب مستوطنة، والجيران سيتعايشون. اثناء التعايش أو بعده يصيرون رسل محبة وتقريب لشعوب الأرض الموعودة الكبرى.

- ما أكثر خواطرك!

ذكرتني بوجودها. كنت أخشى من التفكير الداخلي واتكلم بالصوت كيلا أضع نفسي في شبهة، لكني شعرت بالضيق ووجهت تفكيري نحوها دون صوت:

- ولماذا تشغلك خواطري؟

- تأكل شخصك.

- وما الذي لا يأكله؟

- بقي يومان وقليل..

لكن ثمة ما يؤلم ويرهق فلا أملك إلا القبض على جبهتي وصدغيّ، عند توجيه التفكير. وتظلم اللحظة ولا تعود هناك مساحات يصهل الخاطر فيها. إنه مخلوق مخصص لعملية داخلية حيث يركض بحرية كحصان غير مهجن، وليس وسيلة تعبير.

- بقي يومان وقليل..

نعم يا عزيزتي، محتاجٌ للود والأنس ذي الند، غير أن هناك معيق.. فمن أنت؟ أم أن ماهية الأنثى لا تهم طالما توفّرت؟ كل ما يهم أنها أنثى؟؟

تقريبا كذلك، لكن الا يهمكَ الجسد..؟ ومن الأحمق الذي يدّعي هذا؟ الخاطر مهما تعمّق واقترن وهم يحتاج لإثبات. لم تسألين؟ هل أنت قبيحة؟ عرّف الجمال؟ إنه نسبي! لا تتحاذقي، الجمال وظيفة، ولكلٍ جماله. قد تمر أنثى في الطريق فتنسيكَ عقلك كلّه! الذي أنتِ فيه؟. منظومة متراكمة فيها "العقل نهرٌ يتجدد". لماذا لم تردّي الفكرة لأصلها، التداعي تعرفينه: الوعي فنجان..؟؟ افسدَك حسين البرغوثي. لا. كان صادقا فحسب وعبّر عما أحسّ به حين عبثوا به. ظل يطوف بخواطره حول الكعبة مع العراة وتلهى بلغة عبقر وايقاع الصدى. علق في الجاهلية. لكن أهذا عدل؟ أن تعرفي أفكاري ولا أعرف أفكارِك؟

انتصبت بسرعة:

- هل ترغب؟

- سمعت اغنياتك وتأملتها جيدا. خلف النشيد كلّه -وقشور المعرفة- تقف طفلة وحيدة أمام أشجار تنشد الحب. الأب. الرجل. لكن حدثيني عن مقصدك.

- المعرفة وقود لا ينضب، ولا يضبطه حد..

- افصحي.

- له علاقة بالتجريب والمغامرة، الدائمين. وفي الأثناء سترى عوالم كثيرة، لكنك لا تستطيع تغيير شيء، خصوصا بعد أن..

- أن ماذا؟

- أن تشرك.

- ماذا تقصدين؟

- لتعرف أكثر، بلا حدّ، عليك أن تكسر كل محرّم.

- هل هذا ما حصل معك؟ الأجساد والبطارية وكهرباء النفس وامواج التنقل؟؟ لا تهمني المعرفة، بل العلم.

- أنا احدّثك عن العلوم..

- لا أعني علومك. امّها فلسفة وفيلسوفها ابليس.

- كلام طوبرجي!

التكلم بالصوت يتعب أيضا. كان عليّ أن اتخلّص منها. برّدت أعضائي بالماء وتأملت وجهي في المرآة، ودهشت. لقد اكتشفت وسيلة جديدة للتحقق من النفس عند الشك: النظر في المرآة والكلام ومطالعة جلد النفس. كما يحصل مع الأطفال. مفعول الماء جيّد. غمرت رأسي ثانية، ثم أزلت القطرات مبقياً على الرطوبة. عدت واقعيا، فانتهزت الفرصة لأصلّي.

أشركت.. أشركتني في جسدك!

كانت تهمس من حولي مثل صغيرة مشاكسة أخذت تكشف عن لؤمها، فتجاهلتها. تعوّذت وبدأت الصلاة. الجهر في صلوات الليل حكيم، حين تؤكد نفسك من خارجك، بصوتك الملتف في أذنك. الانضباط في الوقوف وعند الركوع، وعند الجلوس أو السجود. تتصور نفسك خاضعا لربك الذي لا يحيط به شيء، فتعود لواقعك.

لمّا سلّمت، عرفت حجم الورطة التي وضعت نفسي فيها.

///

- اتحبني؟

لم أتوقع أن تسأل.

- لا أعلم. كيف للإنسان أن يعلم؟

- يعجب، يشعر، يستلطف، يندهش، يتقرّب، يحركه شيء ويسيطر، يحب!

- بح!

- فكيف تفسّر تفكيرك فيّ؟

- الاحظ. أتساءل. استغرب. أتصور. أهتم. وربما أتعلق.

- تعلق طفل بلعبته حين يسأم منها يكسرها؟

- جائز.

- ... أبوك!

لما سمعت الشتيمة كان عليّ أن أرد. خطر لي أن اضربها ولكني لم أعرف كيف. ثم انبثقت الفكرة المزلزلة: اقتربت بهدوء من الحائط ونطحتُ رأسي. القرين يلتصق بالجسد، ويمكن تعذيبه به ايضاً، لأنه يصير حبساً. لنتعذّب معا! لما صفا المشهد في ناظري وكفّ رأسي عن الدوار، رأيت الغرفة بألوانها العادية، الباهتة، لا الناصعة ذات التوتر. ثم حلّ الصمت طويلا إلى أن قلت أنا:

- ما رأيك؟

- كلب! مجنون!

لم تتعلّم. تعوذتُ وبسملت. هربت الفكرة أو النفس المقترنة. كنت منهكا، فأكلت القليل بسرعة وشربت ونمت. في تلك الليلة حلمت، وكان قد مرّ عليّ وقت من دون أحلام (أو من دون تذكرها).

///

رأيت ندى. قامتها أكثر من المتوسط وهيئتها ممتلئة، أما صدرها فحنون مندفع. كانت تقف خلف القبر، تزيل ما علق من أوراق وتراب. الميّت شهيد أعرفه، ومبهجٌ نحيلٌ صاحب همّة ونكتة، لم يكبر، بينما استمرت هي في العمر أكثر. كان ممدداً في قبره، وندى من فوق تزيل العالق. حين رأتني تبسّم وجهها الصبوح. لم تكن تخجل من اظهار عواطفها وتعلقها لمن في القبر، عكس عادتها التي جعلتها تموّه. اشارت أن اقترب، تعال. أخذت اساعدها في إزالة التراب. لم تفهمني ابدأ ولم تفهم ما الذي اريده. كنت حزمة من الانطباع والعاطفة لا تريد شيئا، تستجيب ولا تفكّر. لكنها الآن مختلفة. ربما لأنها قربه، قرب القبر، ولأنني قرب قربها. قالت لا يعيق بيننا شيء: ستتغلب كثيرا في الدنيا، وستقع على رأسك.

///

حين استيقظت شعرت بالبهجة والحيرة والامتلاء، عكس ما تسببت لي به. لم استرح إلا عندما ماتت. انقطع شيء كان يصل بيننا يكفيه المرور أو الحضور: في المكان أو الخيال. ماذا كانت تقول؟

هتفت البيضاء من خارجي، ادخلني الآن الآن. صوت متحفّز يكوّن صاحبه. إنها غاضبة على شيء من الغيرة. كيف لو علّمت أنني عن بعد عشرات الكيلومترات، كنت اخرج بخيالي واتتبع الشوارع، وأصل حيّها فبيتها، وأمضي حيث تستلقي وتنام لأهمس لها: صباح الخير؟

- ادخلي.

- وما علاقتي أنا؟

تركت الجواب ينساب في تفكيري دون أن أوجهه أو اصيت به: عندما ماتت، ظهرتِ أنت. شيء كان مستحيلا عليّ، أن أستمر به. كان لي أكثر من أم، ولي أخوات، ولي زميلات، ولي صديقات، لكن ليس لي.. الحقيقة: لم يكن هناك أحد البتّة. بمجرد أن لمحتك تؤدين النشيد، بصوتك الذي لا علاقة له بالأداء، ولا الغناء، كصغيرة تتباهى بين الحضور والجميع يدركها ويرعاها، حللت أنت.

- من أول نظرة؟

- دعك من التفاهات.

- لأنني كنت على المسرح، تحت الضوء؟

- ربما. لم التفت لك لحظتها، لكن فيما بعد أخذت أتذكر التفاصيل القليلة. التذكّر حضور، والذاكرة فخ.

- وهي، ندى؟

- ماتت مع تفاصيلها، لكني أحلم بها أحيانا كأنها تأتي لتحيي أو تنبّه. حضورها جميل.

- وحضوري؟

- لا أعرف، ولا اريد أن أعرف. المعرفة تقييم، والتقييم بعد الانتهاء. دورك الآن، حدثيني.

- كان هنالك آخرون.

- طبعا! أعرف. أكملي.

لم افكّر بالكلمات لكن تنبّهي، اسفل الكومة اللغوية ذات النسق/ المعجم في تلافيف الذاكرة العضوية، كان منطلقا من اتجاه ومنصبا في اتجاه ويبثّ مركز المعنى. تعمّدت التفكير في أول كلمة عشوائية تخطر لي، فنظرت إلى الخزانة ورأيت الباب، فظللت اردد، في فكري، "خشب.. خشب.. خشب.. ".

أحست بالمركز، ولم ارد لها الاعتراف أو التصريح، لكن لا بد من المواجهة.

- توقف أرجوك. الصوت مزعج.

لم أتوقف.

- ولماذا يهمّك الأمر؟

عصبيتها عصبية من استقلت عن المحيط، وانفردت في الطريق، ولا تريد لأحد أن يسألها أو يسائلها.

- حسنا. شاهدت صورك الشعرية، وتمعنت في مفاهيم الأغنيات. الحسيّة صدق، وليس كل صدق صحيح. سأسهل عليك: قادتني تجربتي للإدمان على الحضور ذي الغياب.

- وأنا مثلك، لكن على نمط الحياة.. "أمواجك" كانت تزعج الجميع وتتسبب بالمشاكل، لهذا حضرت اليك. ثم..

- أنت في عقلي، تفهمين وتشاهدين وتحسين، فهل يمكنك وصل عقلك بي؟ اريد أن أفهم.

- طلب خطير!

فهمت بسرعة الاحتمال. اذا كان الفهم أو المعرفة لهما ثمن، فأنا لا اريد.

- اعتذر وأسحب الطلب.

ثم تعوذت وسمّيت. كان صوتها وهو يغادر هادئا خاليا من التنغيم. ذهبت إلى الحمام وغمرت رأسي في الماء. كان البخار يتصاعد، ووجهي رغم أنه في المرآة أمامي، يغيب. خشيت من الاستغراق والغرق، فبدأت أؤدي الحركات الرياضية. منذ غادرت التعقل انفلت الطوق، وصرت أغوص في مجاهيل. ثم خرجت اتمشى استعين بالأماكن على نفسي.

(5)

- بقي يوم.. لا تضِعه. ادخلني.

لم أذهب إلى الورشة، واتصلت مبلّغا عن الغياب. المأزق أنها حولي اسمعها، ولم أعد اريد لها الدخول. هل يمكنها أن تسمع أفكاري حين لا أدخلها؟

ليس مهما، فالله أعلم بكل شيء.

كنت آكل الخيار على شدّة، لأشوش عليها. اغني أي شيء واتتبع معناه بعد اللفظ. ابتكرت التفكير الصوتي لأرد أفكاري إلى دفينها، تداعيها ولا وعيها، الكومة.

يمكن للمرء أن يحيا هكذا بالكامل، خارجه، ودون عقل، اذا كانت له ذاكرة معتادة: تنهض منذ الصباح فتسرد دعاء. عندما تنام بالمثل. عند الصلاة والأكل والخروج والدخول والتقاء الآخرين والحمام والسأم والفرح.. الخ، وأي شيء يخطر لك، فله -على الأقل- تقريب. القرآن يجلو والسنة تمثّل.

- لا فائدة منك. دمّرتني.

(6)

أعاني طوال اليوم لأنني بلا بيئة وفوضوي. اصحو بعد الفجر بوقت، فأقضي الصلاة. أكره الكهرباء والأجهزة الالكترونية والمنزلية. اعتدت على مواضعات الآخرين ولا أمارسها. لا أثق البتة بأحد أو شيء. لا اطمئن ولا اندفع. انتبه للمركبات وحركات الناس. حتى ما يفوت عنّي، أعيد تذكره.

الدماغ أمواج والأمواج تختلط، ومن دون خوذ يمكن التسلل. الكائنات كلّها تستعمل ويمكنهم، بشكل محدود، توجيهها. برج "الاتصالات" المركزي على التلة المقابلة، بجوار المعسكر. والانترنت/ الحاسوب شاشة تبث كل حرف: بالشاشة والارشيف، حتى من دون اتصال. لا استعمل الهاتف، خاصة الذكي، إلا ما ندر. العقل خوارزمية طبيعية يقلدونها بالذكاء الاصطناعي. كل ما هو غيبي يقلّد بالعلم المادي.

صليات الرصاص، من المعسكر أو الأعراس، لا اكترث لها.

في الأعلى أقمار اصطناعية، وبرامج التلفاز مجدولة، وهناك توجيه. الراديو بالمثل. لا اصدّق قريبا ولا قريبة. (السلطة) عاجزة في كل شيء ولتستمر عليها أن تعتمد، فتؤدي ما تتواطأ فيه وتجهل أبعاده. التجمعات والمؤسسات والأجسام، أبواب دوّارة، ولكل منها غطاء وطني. المستشفيات أوكار ومخارج.

النَور لم أنظر لهم أبدا، وظلوا يطوفون حولي وتجاهلتهم. وسمعت قصيدة جديدة لها على الراديو فأغلقته، وعرفت أنها كانت تكذب. من يدري، ربما قلّدوا الصوت. لم أعد أهتم.

الذي أحبه -أو أخاف منه- أحذر من اشراطه واستفزازه..

وسوم: العدد 1123