البوم.. وقصور الأوهام
عبد الرحيم منصور
يبدو هادئاً كشجرة هرمة، تبدو عليه آثار السنين، عيناه تغازلان الأفق ببريق نافذ، بينما تعبث أصابع يده اليسرى بحبات سبحة صفراء تكر حباتها في السلك، تهرب من بين أصابعه برتابة مقلقة، وكأنها تحصي أيامه ولياليه، يرتاح لملامسة نسمات خفيفة تنساب إليه من النافذة، فتعيد إليه بعض اتزانه وهدوئه الذي أخذ يهتز.
الليل عباءة تستر، هدوء يقلق، سكون يشكل استراحة تقف بين الموت والحياة. في الليل ينام الناس والأحياء والأشياء. فقط الضمائر المتعبة تبقى مستيقظة، تسمع لنعيب البوم، تتجاوب معه، أو تنفر منه.
رجل وقور يقف قرب الجدار متطاولاً مثل شجرة لبلاب، يمر به الناس يضحكون ويسخرون، يعجب من تصرفهم، يتملكه الصلف والغرور، يهز قبضة يده في وجوههم، فهو يملك السطوة والقوة، ولكنه لا يستطيع أن يستر عورته، فقد بدا لكل من يمر به في الشارع عارياً تماماً مثل تمثال إغريقي قديم.
المدفأة تتوسط الغرفة، تجمع حولها الأسرة، توزع عليهم الدفء، بينما يعصف البرد في الخارج. الجدة تحكي لأحفادها المتحلقين حول المدفأة حكاية البوم الذي أحبه الحاكم، وجعله شعاراً لدولته، فتحولت البلدان إلى أنقاض والقصور إلى خرائب.
ذهب الجميع إلى النوم، أما هو فقد بقي مستيقظاً يتمنى لو أن الجدة تحكي له المزيد من قصص البوم.
باب المسجد الواسع يلفظ رجلاً وسيماً أنيقاً، يلبس ثياباً فاخرة بيضاء، ويعتمر طاقية بيضاء، تغمر وجهه وذقنه لحية كثة بيضاء، يتمتم وهو يخرج من باب المسجد بعبارات غير مفهومة، وتتأرجح بين أصابعه سبحة فضية تطقطق وكأنها تستغيث ولا مغيث، يعبر الشارع يقف له الناس محيين، وهو يبتسمون له، وقلوبهم تلعنه، أما هو فيتصنع الرزانة واللامبالاة، أحس ألماً خفيفاً في رأسه، ثم أخذ يقوى ويشتد رويداً رويداً حتى استوعب رأسه بأكمله، لعله الضمير تدب فيه الحياة أحياناً فيؤلم، ويعنف، ويوبخ، ويشير بسهم إلى طريق بين طرق كثيرة أجل.. لعله الضمير!!
يحاول النهوض من مكانه بصعوبة بالغة، فيشده نعيب البوم وتطبق على سمعه وعقله كلمات الجدة وهي تحكي حكاياتها، يرى كيف يضايقه الناس بضحكاتهم وسخريتهم، وهو عار تماماً لا يستره شيء يزيد في ألمه صوت حبات السبحة، وهي تنفلت من بين أصابع يده مترادفة في سلكها المتين، ومنظر الناس يقفون له محيين ويكاد يسمع اللعنات التي يمطرونه بها.
تتجمع أسراب البوم حوله، تنعب.. تصرخ.. يزواد الألم في رأسه، يضغطه بيديه، يرى قصوره، أمواله، نفوذه، سطوته، أوهاماً تتهاوى أمامه، يصيح بأعلى صوته: لا.. لا.. يمشي مترنحاً مبتعداً عن بيته ليس معه سوى آلام رأسه، وتوبيخ الضمير، وبعض عبارات كان سمعها من الجدة في حكاياتها لم تعن له شيئاً وقتها: ظلم.. بوم.. خراب.. وقد بدأ يفهم معناها ومغزاها الآن بوضوح.