في الزّحام
لطفي بن إبراهيم حتيرة
أراه يمشي تحت الشّمس..
أراه يسير وسط الزّحام.. يتعثّر و يتبعثر..أراه ينحني للرّيح و للوجع ثمّ يختفي
ويتوارى خلف الأعمدة وخلف الأبنية.. يجلس على حافّة الطّريق.. يبصق في وجه
المارّة.. يتنخّم يخرجها صفراء مخضرّة.. ينظر إليها تنزلق كحلزون فوق إحدى
السيّارات.. تنزل وتنزل وأخيرا تستقر على حافّة الباب الأمامي ثم تعاود النزول
لتختفي في مقبض الباب أخيرا وجدت المستقرّ والمقرّ.. وجوه بلا معنى.. وجوه بلا
عيون وعيون بلا بريق.. تنظر تحسبها تنظر هي ثقوب في أعمدة متحرّكة تبتلع كلّ شيء
حولها.. دمى تحرّكها خيوط.. تشدّها عصيّ.. تدفعها رغبات وتسوقها شهوات..
حارس المغازة ينظر إليك
يراك قطّا متشرّدا منتظرا غفلة منه ليقفز إلى الدّاخل..أنت فأر ليتك كنت كالقطّ لك
مخالب حادّة ولك أسنان قاطعة.. أنت فأر خرج لتوّه من ماسورة المياه.. شربت كثيرا
حتّى أصبح رأسك كقدر تغلي بالقاذورات وصار جوفك بركة فضلات و فقّاعات تخرج من بين
شفتيك كريهة.. مقزّزة ومنفرة.. الشرطيّ وسط الطّريق معتوها يمدّ يدا ويقبض أخرى..يدور
ويدور على نفسه وفي يده زمّارة يزمّر بها فرحا.. سعيدا كطفل في يوم عيد.. أضحكك
المشهد وأعجبتك الصّورة لما لا تفعل مثله.. لما لا تذهب وتقف هناك وسط الطّريق
المقابل وتجرّب قد تعجبك الفكرة وتسعد بها..
تعبت من الجلوس على
الأرض.. أطلق ساقيك وتمدّد وافترش الأرض دع نفسك تبحر في البحر الهادئ بعيدا إركب
زورقا أو يختا أو سفينة وسافر ترى الدنيا أو تعلّق بخشبة لا يهمّ تعلّق بها جيّدا
وأمضي بها إلى أمريكا أو إلى أستراليا سيّان فهما متجاوران.. أغمض عينيك وأنزل
ستارة جفنيك وقليلا من حاجبيك و استرخي ودع المسجّل يمضي في أغنية " بابور
زمّر خشّ الغريق" و " قدّك بابور.. صالحة.. عوّام بحور..صالحة" لا
تنس أن تفتح المكيّف.. الدنيا والمكيّف سعادة وهناء.. هناء لا تريد السفر معك هي
تخاف البحر وتكره سمك القرش.. هي تحبّ الجلوس على الشاطئ والسباحة في المياه
الضّحلة والتمرّغ في الوحل.. هناء لا زالت تعشّش في دماغك مرّت سنوات طويلة على
زواجها.. لم تعد تذكرك ولا تتذكّرك.. أنت تذكّرها بالماضي التعيس والأيّام
القاحلة.. هناء أصبحت موظّفة في شركة طيران ولديها سيّارة حمراء جميلة.. الكلام
معك صار يصيبها بالدّوار ويبعث في نفسها الإشمئزاز والتقزّز.. تحيّيك من بعيد
وتنظر إليك بطرف عينيها ولا تكاد شفتاها تنفرج.."الفرج على الله".. قال
أحد المارّة وهو يمرّ بقربك فقلت"الفرج على الله..الفرج على الله"..
رفعت رأسك قليلا "رأسي ثقيل كأنه حشر رصاصا ما به؟.. وعدت إلى وضعك الأوّل
مستندا برأسك على الحائط.. مرّ ت لحظات وأنت تكافح الغرق وتصارع الموج تغوص تحت
الماء وترتفع باحثا عن قطرة هواء ولحظة شفاء.. تمدّ يدك ثمّ تمدّ الأخرى ممسكا
بأحد المارّة وأنت تصيح "أنقذوني.. أنقذوني".. فاندفع أحدهم وصفعك على
خدّك صفعة أعادتك إلى رشدك وأعادت إليك صوابك..