هي ناقصة ضلمة
هشام جلال أبو سعدة
ما زال المشهد باهتًا، يملأ المكان شابورة دخان كثيفة، شاشات عملاقة مُعلقة في الكُلِّ جدار وعمود وناصية وبناية وسيارة، ما زالت تبث إما برامج حوارية ليلية مُعادة، إما إعلانات تجارية فجة. رائحة السيارات وغادية في الطرقات.
تجوب الأرجاء سيارات أخرى من كافة الأنواع والأشكال مُمتلئة بأعلام وبيارق أرض الحكائين، احتفالًا بانتهاء العام، المتزامن مع فوزهم بمبارة دولية ودية في التصفيات بين أرض الحكائين ودولة صغيرة في الجوار، باتت عظمى جراء تصاعد أبار النفط فيها. خرجا الفريقان متعادلان بعد مُبارة ضعيفة المستوى كالعادة، إنما خرج الشباب ليفجروا الطرقات فرحًا بالفوز الرهيب كما علمهم قادتهم والاتباع، لتتطاير الصواريخ والشماريخ النارية في السماوات مُفتحة ثقوبًا في السحابات البركانية الداكنة. ظلت الحيوانات الضالة تجري بين آشباه البشر البالغ، عددهم بالملايين، مُتدافعون بعيدًا عن المحيط الهندي. أصوات الغناء مع آلات التنبيه المتعالية تتصاعد لعنان السماء، زخاتُ مطرٍ تتساقط، تبدو مياهً حمضية، تنبح الكلاب نباحًا متواصلًا. ضم المشهد لقطات متتابعة لكُلّ من جاءوا في المتن السابق، ضحك ولحب ولهو وحب، لتنفجر الأرض فاجأةً في رجفةٍ أرضيةٍ بالغةِ الشدة. عودة مرّة أخرى للوجوه، صراخٌ وعويل، ندبٌ وبكاء. المشهد يتبين عبرَّ لقطات ثابتة متتابعة متتالية، مُعبرة عن هولٌ وويل، تطير السيارات في الفوق، في الهواء، تتفتح الأرض في صدوعٍ متتالية، فتنهار البناءات متوسطة الارتفاع في البداية، لتتصدع الناطحات واقعة في أماكنها، الهول عظيمًا، ليسود ظلامٌ دامس.
- هي ناقصة ضلمة!؟
قالها حكيم، يكره الظُلمة كراهية الموت، لا يلتفت اليوم لا للظُلمة ولا للموت. يعود لمدونات جدّه نازح فيجد بعض الاتفاق مع عما قرأ في مدونات آدم، ليعود ليفتح مدونات أبوه لادع، ثم جدّه فاصل خالص، ليتبين له ما كان عرفه منهم في مدوناتهم، ليجد عند جدّه شيئًا جديدًا عما كان حصل في العام (2054م).
(... ففي هذا العام حصل الزلزال الكبير أو فيما عُرِف بالرجفة الكبرى- بيج إيرث- كوايكس- فائقة الشدة، تبعه في نفس العام بعد بضعة أشهر قليلة الطوفان الرهيب مُغرقًا للأخضر واليابس؛ ففاض الماء شديد الملوحة من البحار. فكان الناس نيامًا فانتبهوا. يرحل آدم الحكائي وزجته نائلة الناسك لمكانٍ مجهول، لزمنٍ مجهول، لحَتَّى موعد حل فيه من نسلهم وذويهم وأهليهم أرض الرجفة؛ الأرض الجديدة، المتكونة حديثًا. ففي نهايات الألفية الثانية، بعد الفترة فيما بين العام (2056م) لحَتَّى العام (2700م) اختفت البشرية في هذا الركن من العالم بالكلية، فوسموها أرض التيه العظيم. تصحرٌ وسفيُ رمالٍ وموتٌ لكائناتٍ فطرية من حيوانٍ ونباتٍ وطير، تحولت الأنهار لبحيراتٍ لمياهٍ راكدةٍ مليئة بالعفّن، عَمّت أراضٍ مُتشققة مُمتدة عبرّ كامل القارتين السمراء والصفراء، فغاصت أرض الحكائين فانتفت من خريطة العالم، إلّا جبل حوار عاد طافيًا فوق آديم الماء بعد فترةِ أكثر من سبعةِ قرونٍ بالظنية. صدق من قال: آينكب الناس على أنوفهم إلّا من ناتج حصاد السنتهم، إلّا من رحم الله تعالى من عباده الصالحين غيرّ المجادلين، ففروا من قدر الله لقدر الله، هم وذريتهم، فاختفوا في التيه. بيد أنه لم يتبين أي شو (= عرض) لمواليد تلك الأسرة ممن عاشوا في فترة ما بعد الزلزال الكبير والفيضان الرهيب، فاختفت الحياة بالكلية زمنًا، لعله زاد عن السبع حقبات، (الحقبة = مائة عام). فلا إله إلّا الله؛ تلك كانت الحكايات المدونة في الوثائق الكُبرى للعم آدم الحكائي عميد حُكماء المحاورين في أرض الحكائين بعدما وجدها حفيده حكيم لادع فاصل خالص...).
تمت