الحب الأول

زينب الخالدي

كان هوأول حب لامس عذرية مشاعرها .. منه كانت أول رسالة حب .. وأول نظرة ، وأول ابتسامة ، وأول وردة تسكن قلبها فدفترمذكراتها ، وأول رعشة ، وأول همسة لامست أذنيها وحفرت اسمه على جدران قلبها.

لكنها اكتشفت أن الوطن هو عشقها الأول

هو أول الوعد وأوسطه وآخره منه رشفت قبلة الحب الأولى ، من ترابه المعجون بدماء الشهداء الطازج الذي تولد منه سنابل القمح معطرة برائحة الدم الزكي الذي امتصته عروقها وارتوت منه .

ذلك الوطن الساكن في أحداق القمر نحلم به ... نبكيه ونهديه أرواحنا رخيصة مهراً له .. إنه يسكن أعماق أعماقنا إننا نتنفسه نستنشق نسائم الحرية من ذرات ترابه التي نقشت حناءها من دماء أحراره ، لقد ارتشف من دمائنا وتغذى على لحومنا واختزن أحلامنا... ذبحنا كالنعاج من أجله فما اشتكينا،أشربناه ماء عيوننا فراتاً فما ندمنا ... افترشنا رماله وتدثرنا بسمائه حينما عزَّ علينا الغطاء فما تذمرنا ...     

ما أشهاه يلثم شفاهنا العطشى بندى الورد !

هكذا كان ردها حينما كاشفها بحبه وطلب منها الزواج ، فماعاد قادراً على تحمل لظى الحب ، ولا على البعدعنها ولو للحظات

قالت له بصوت هامس وهي تتحاشى النظر إليه وكأنها لاتريد أن يسمعها

- لكنني لا أستطيع البقاء هنا، لابد من ذهابي ، لقد قررت الرحيل والسفر

قنبلة مدوية مدمرة فجرتها في وجهه لم يكن يحسب لها حساباً

أمسكها من كتفيها وهزّها بقوة  :

- انظري في عيني ، لا تبعدي نظرك عني ، أجيبيني وأنت تنظرين في عيني

رفعت نظرها إليه والدموع تترقرق في عينيها وانسابت دمعة بلورية حرّى في غفلة منها على صفحة خدها الوردي فلمعت تحت ضوء القمر لكنها سرعان مامسحتها بأطراف أصابعهاوهي تشهق بحرقة ثم قالت :

- أنت تعرف كم أحبك ، ولكني لا أستطيع ، افهمني أرجوك

وكان لابد له أن يستميت ليكسب حبها ، ويغير رأيها ، ويمنعها من الرحيل..

- لا تذهبي أرجوك ، أنت تعرفين ماينتظرك هناك ،لا أريد أن أفقدك بعد ما وجدتك ، فأنا لأجلك أحيا ، أنت حلمي الذي لطالما بحثت عنه في صحوي ومنامي وتجسد لي الآن ...أبعد أن وجدتك ترحلين  ؟

    كلنا نحب أوطاننا، وأنا لا أملك الحق في منعك من الذهاب إلى هناك ، وجلُّ ما أطلبه منك أن تتريثي قليلاًحتى تهدأ الأوضاع .

أجابته وهي تغالب مشاعرها ودموعها :

- لقد وصلت الأمور إلى مرحلة اللاعودة، ولايمكن فيها جرّالعربة إلى الوراء أو إرجاع عقارب الزمن إلى ما مضى ؛ فالدم استسقى الدم ولم يبق بيت إلا وفيه مصاب من قتيل أوجريح أو معتقل أو مفقود ، نارالثورة تتأجج ، والأوضاع لن تتحسن أوتهدأ حتى يبزغ فجرالحرية .

لقد " شب الشعب عن الطوق " ، والناس كسرت حاجزالصمت والخوف الذي كان يلجمها قد كان الناس قبل اندلاع الثورة يخافون حتى من ظلهم ، لقد كانوا يشكُّون بأقرب الناس إليهم، وحتى بأنفسهم لما زرعه هذا النظام طيلة الأربعين سنة الماضية من رعب في نفوسهم ، ووجل وشك في قلوبهم وعقولهم. أما الآن فلقد واجهوا الغول الذي زرع الخوف في نفوسهم وما عادوا يخشونه . 

    لم يعد بمقدوري البقاء والانتظار لقد نفد صبري وأنا أرى ما أرى وأسمع ما أسمع

فسورية العروبة تتخضب بالدم وشبابها يقدمون أرواحهم رخيصة مهرالحرية ،

سورية العراقة التي تفوح من أرجائها رائحةالتاريخ الذي يلج من أبوابها العتيقة ممتطياً صهوة المجد ، ويُسمع من أرجائها صدى المعارك والبطولات ، وقعقة الرماح ، وصليل السيوف وهتافات النصر تذبح كل يوم وتنتهك حرماتها. فكيف لي أن أبقى هنا بعيدة عنها ؟!

- عليك أن تتحملي وتصبري قليلاً، فذهابك الآن فيه مخاطرة كبيرة  .

- لا أستطيع صدقني ...فسورية تسكنني ، إنها تجري في دمي ، تتغلغل في مسامي ، أستنشق حبها مع كل نسمة معبقة بأريج الزهور التي تفوح من بساتين غوطتها التي ارتوت بدموع بردى و تعمدت بدماء الشهداء الأغلى والأسمى ، وتكحلت بسواد ليلها الذي اختزن حكايات الحب والسمر وأحلام الطفولة والصبا.

إنها بانتظاري

 كل مافيها يشدني إليها :حدائقها المعتقة بشذى الورد والياسمين ...جدرانها التي اختزنت آلام المحرومين والمكلومين وآمال الحالمين بقمر بلاخسوف ، وبوطن تحط فيه العصافير على غصون الأشجار بدون خوف من بندقية الصياد ، وشجرة تتدلى أغصانها بلا فزع من فأس تدميها .

هناك حيث الحب يرتسم في العيون الحالمة ، والفرح يتراقص على الشفاه الريّانة الباسمة .. هناك حيث تسح دموع السماء مطراً يغسل وجه الأرض ويداوي جراحاتها...

أحياؤها القديمة النائمة في حضن التاريخ تناديني ...

التاريخ الذي يغفو بين جنباتها ... وفي زوايا بيوتاتها المعشقة بالذكريات يصرخ في أعماقي

حبلي السُّرِّي لمَّا يزل موصولاً برحمها ..فكيف لي أن أبتعد عنها ؟!...أموت إن تركتها .

إنها بانتظاري تشتاقني كما أشتاقها

وكلما حاولت التمرد على رغبتي بالعودة إليها تشدني رائحة التاريخ وعبق الذكرى. ففي كل حي من أحيائها القديمة حكاية وقصة ، وبواكير صباحاتها تدندن بأغنيات فيروزية ، بزقزقات عصافيرها التي تتقافز جذلى فوق أغصان الأشجار ، وبخارفنجان قهوتها الصباحي المسافرفي الآفاق ، المتأرجح في عيون العشاق...

فسورية تسكب عطر حبها في كل زهرة نائمة بدلال في حضن أشجار الياسمين المستلقيةعلى كتف كل جدارمن جدران بيوتاتها الغافية في حضن قاسيون .

ترى ماذا تخبئ خلف أبوابها وبين جدرانها الدافئة المعتقة بالتاريخ من قصص الحب والبطولة ؟

- ياه ، ألهذه الدرجة تحبينها ؟!!!( وبحسرة) ليتنى أحظى بالقليل من هذه المحبة .

- صدقني وأكثر ...إنه حب يأخذك إلى مرامي الهلاك فلا تأبه هكذاهو الوطن ترمي بنفسك في أحضان الردى من أجله مغتبطاً ... إنه قدرك المحتوم ، عذابك الذي تستلذه .. قيظك الذي تهواه يحرق فؤادك فلا تبتئس أو تشكو  ..... يأسرك الشوق إليه.. تحبه في المعقول واللا معقول تحبه بكل لغات العالم المنطوقة وغير المنطوقة ، وبكل متناقضات العالم ... هو الحب الأول والأخير ... والذكرى الأبدية التي لاتنسى ولاتبهت على مر الزمن .

وهناك

كانت السماء تمطر شهبا من جهنم ، أزيز رصاص وقذائف تتناثر، وحطام يفترش الأرض ، ودور مدمرة ، وأشلاء مبعثرة ، ورائحة الموت والبارود واللحم البشري المشوي تزكم الأنوف .. قتلى وجرحى .. معتقلون ومفقودون .. ثكالى وأطفال وفارون ولاجئون بالألوف....

 وهناك

على القمة في الظلام جثة عارية غارقة بالدماء ترقد بسلام ... ملفوفة بعلم الحرية.. قد انسكب عليها لجين القمر شفيفاً لامعاً وقد أرخت جدائلها تحت طرحتها التي زُينت بأزهارالياسمين الشذيّة ، لتنسدل على أكتاف قاسيون ، وفوقها حلّق طائر الفينيق عالياً ناثراً أزهار القرنفل والزنبق والورد الشامي ليفوح أريجها فوق الهضاب والتلال والجبال والسهول

وعلى سفوح قاسيون مرت جحافل الخيل والفرسان وهي تصدح بحنجرة " القاشوش"  سورية بدّا حرية  ، وترسم  بأنامل " فرزات " علم الوطن بالأحمر القاني

وظلت مواكب الأحرار تترى واحداً بعد آخرتزف الشهداء فوجاً وراء فوج لعروس سورية الأبيّة ، أملاً ببزوغ فجرالحريّة .