بصمة حزن
سمية نعمان مرعي
كانت الأحلام تتناثر والأيامُ تتفا رق وكانَ والدا سالم ذاهبين إلى السوق وبينما كان أبو سالم يقودُ السيارة وقعَ حادث مريب فنقل والد سالم إلى المشفى ولكن القدر حكم على زوجته بالوفاة وكانت حياة أبو سالم في موضع حرج فاستدعى ابنه فدخل سالم غرفة أبيه وهو خائف ومرتبك والحزن والصمت يستوطن قلبه فقال أبو سالم:
اجلس بني ما بك فجلس, وبدأ يحدثه قائلاً:
لا تلمني إذا كنتُ محكوما بالموت كن قويا ولا تحزن واعلم أني أحبك بوسع هذا الكون كله فنظر سالم على والده محدقا وقال:
ما الذي تقله يا أبي أنت لن تموت فأنا أحتاج لكَ كثيراً أرجوك أبي لا تتركني في هذه الدنيا وترحل, فأجابه والده:
ولكن بني من قال لكَ أني أريد الرحيل ومن قال أني أريد الفناء فأنا كل ما أتمناه هو أن أكون بجانبك ولو كان الأمر بيدي فلن أُفارقكَ أبدآ ولكن القضاء هو من اختار لي الموت لذا كن فتاً عصامي واصرف الكروب عن قلبك ولا تشغل نفسك كثيرا حتى تهمل أمورك ولكن بني لي عندك مأربين إن قمت بتنفيذهما فسأكون سعيداّ فقال سالم:
اهدأ يا أبي ولا تتعب نفسك كثيرا وكن واثقاً بأنني سأفعل ما تشاء, وكل ما طلبه أبو سالم من ابنه هو أن يتابع دراسته الجامعية وبعد ذلك يقوم باستلام شركته, فأجابه سالم:
أعدك أبي00 أعدك بأن أسكن الحاضر وأن أنفذ ما تريده مني 0فتوفى أبو سالم وهو مطمئن القلب على ابنه الذي لم يتجاوز عمره العشرون عاماً وبعد سنوات قليلة أنهى سالم دراسته الجامعية واستلم إدارة الشركة وتزوج كي يبني عائلة متماسكة فرزقه الله بسلمى وبعد سنتين رُزق بأمير فهو كان ليس فقط أباً لهم بل وإنما كان صديقاً لهما فهم اللذان أدخلا البهجة على قلبه بعد أن فارقاه والداه 0ولكن لا بد للزمن أن يظهر ما كان يخفي ولا بد للسعادة أن تضمحل وبعد مرور عشر سنوات عاد ماجد من أمريكا إلى فلسطين وكان يحمل ا لضغينة في قلبه تجاه أبو سالم ولكنه كان يخفي السبب وأول ما بدأ يفكر به حال عودته هو الانتقام من سالم فهو كان ذائع الصيت ولا يحتاج ليبحث عنه حتى يجده وقال في نفسه الآن قد جاءت اللحظة التي كنت أتمنى أن أحيا لأجلها سأنتقم وسأحفر الحزن على قلبك يا سالم فأنا أريد أن أسيطر على أموالك وأن أجعلك تبكي على أبنائك وقد طلب من شخص يعمل عنده أن يقوم بإحضار فتاة من الميتم على أن تكون في السادسة عشرة من عمرها فأحضر ذلك الشخص فتاة تدعى دانا وعندما دخلت غرفة ماجد رأى أن الشجاعة تملأ قلبها فنظر إليها قائلاّ :
أنت فتاة جميلة وشجاعة وتستحقين الحصول على كل ما تريدين وعلى حياة كريمة أليس كذلك فقالت:
ومن أين لي يا سيدي فلا يوجد لدي عائلة تنفق عليّ وتحميني فأجابها:
أنا سأمنحك النقود وسأجعلك تعيشين في أمان وسلام ومقابل هذا فأنت ستقومين بإهدائي خدمة صغيرة فقالت:
وهل يعقل أن أرفض النقود يا سيدي, فقال:
سأنقلك الآن إلى مدرسة أخرى تتعلم فيها فتاة تدعى سلمى ومهمتك هي أن تتقربي منها وتجعلي منها صديقة لك وبعد ثلاثة أو أربعة أيام قومي بدعوتها إلى تناول الغداء في المطعم ومن المؤكد أنني سأكون هناك وبعد ذلك سينتهي عملك ولكنني أحذرك إن قمت بإخبارها عن أي شيء فستخسرين النقود وروحك أيضاّ فذهبت دانا إلى المدرسة الجديدة وذلك لتحقيق هدفها وبدأت تتقرب منها وتحدثها في شؤون حياتها الخاصة والمزيفة وبعد مرور ثلاثة أيام جاءت دانا على سلمى وخاطبتها قائلة :
سلمى أنا أشكرك من صميم قلبي على مساعدتكِ لي فأنا لم أجد ولن أجد صديقة أفضل منك ولذلك أردت اليوم أن نتناول الغداء سوياًّ في المطعم ولكن لا تقلقي فلقد أخبرت والدتك ولم تعارض فذهبت سلمى معها وحينما وصلت رأت أن المكان خالياً من الناس فأرادت أن تأوب فجاء ماجد من خلفها واستقبلها بقوله :ها قد وصلت أخيراًّ إلى منزلك الجديد فنحن كنا ننتظرك على أحر من الجمر فدهشت سلمى وقالت:
عن أي منزل تتحدث فأْنا لدي منزل أعيش فيه ولست مشردة فهيا ابتعد عن طريقي فقال:مهلا يا عزيزتي ألست أنت سلمى فقالت :
نعم أنا سلمى
فقال:إذن ستزوريننا بعض الوقت حتى نحصل على ما نريد من أبيك ولكن لماذا لم تشكري صديقتك فهي من قام باصطحابك لتناول آخر وجبة طعام, فأجابته:
ولما اشكر من ساعد على إيقاعي في حفرة عميقة إنها ماكرة ومخادعة فقالت دانه: ولكنني يا صديقتي لم أصطحبك إلى هنا جبراً عنك فأنت قبلت المجيء بإرادتك. فأخذها ماجد إلى مكان بعيد عن المدينة وذلك حتى لا يراها أحد ما ويخبر عنه 0 وعندما اْقبل المساء قلقت الأم كثيراّ على ابنتها فأجرت اتصالا هاتفيا بها لأكثر من مرة ولكنها لم تجبها ولما وصل سالم ذهبت مسرعة تشكوا تأخر ابنته إليه فاتصل بها والدها فأجابه ماجد قائلا:
مرحباّ يا سالم فدهش سالم لما سمعه وبدأ يسأله:من أنت ومن أين تعرفني !ولكن أين ابنتي سلمى أليس هذا هو هاتفها النقال فأجابه ماجد:لا تكثر الكلام واسمعني جيداّ اليوم وحالاّ إن لم تأتني بمائة ألف درهم فاعلم أن ابنتك لا وجود لها على هذه الأرض وإذا فكرت فقط في إبلاغ الشرطة فسأقتلكما أنتما الاثنان فأنت لا تعلم مدى خطورة اللعب معي فقال سالم:
ولكن لماذا ما الذي فعلته لك فأجابه:
اليوم وعندما تأتي سأخبرك واعلم أن لقاؤنا سيكون في منتصف الليل وأما المكان فسأخبرك به قبل نصف ساعة من الموعد ثم أنهى ماجد المكالمة وبدا سالم كالح الوجه فقالت زوجته:
ما الذي يجري يا سالم أين ابنتنا, فقال بصوت خافت:
لقد اختطفت فبدأت تبكي وتقول أنت تمزح معي أليس كذلك فقال:لا أنا لا أمازحك ولكنني أعدك بأنني سأعيدها فجلس يفكر وقال في نفسه: ماذا لو أْخذوا النقود ولم يعيدوا لي ابنتي !ماذا لو قاموا بإيذائها !فما الذي سأفعله في تلك الحالة0وعندما صارت الساعة في تمام الحادية عشرة ذهب متوجهاّ إلى غرفة ابنه فطرق الباب واستأذن بالدخول وجلس وبدأ يحدث ابنه قائلاّ:
أنت تعلم يا أمير أن أختك اختطفت من قبل اْحدٍ ما وكل ما أعرفه هو أنهم يريدون مني النقود واليوم سأذهب وأْمنحهم ما طلبوه مقابل أن يعيدوا لي سلمى ولكن إن لم نعد نحن الاثنان فقم بإبلاغ الشرطة على الفور وحالما يعلمونني بموقع المكان سأخبرك به وفي ذلك الحين وصلت رسالة لسالم كان بداخلها اسم المكان الذي سوف يذهب إليه فقام بإعطاء اسم الموقع لابنه وأوصاه باْن لا يترك أمه وحدها واْن يبقى بجانبها إلى حين عودته وبعد ذلك خرج من منزله وهو مبحراّ في كل ثناياه وقد أخذ معه ذلك المبلغ من المال وعندما وصل رآهم حيث كانوا ينتظرونه فخرج من سيارته وخاطبهم قائلاّ:
إذا أردتم النقود فدعوني أرى ابنتي أولاّ فخرج ماجد من سيارته وقد أْنزل سلمى معه وحينها اطمأن سالم على ابنته وسلمهم الظرف قائلاّ:
الآن أعطيتكم ما تريدون فهيا أعيدوا لي ابنتي فقال ماجد:مهلاّ أظننت اْنك ستمنحني هذا المبلغ الضئيل من المال وترحل أنت وهذا الملاك الصغير يا لك من رجل غبي فسأله سالم عن السبب الذي دفعه إلى الانتقام منه وعن الشيء الذي فعله وآلم به غيره فأجابه : لا يا صديقي أنت لم تقم بفعل أي شيء فالذنب هو ذنب والدك ليس ذنبك أنت فهو الذي جعل قلبي رماداً أسوداّ فعندما كنت شاباّ كنت اْعمل لديه وكنت أسلب بعض الأموال خفية دون علم والدك وعندما علم بأمري قام بإدخالي إلى السجن ولم اْستطع أن أوقف محامياّ فكنت أعاني من شدة الفقر فَسُجنتُ لمدة سنة كاملة وبعد أن خرجت من السجن أردت أن أْنتقم حتى ولو كلفني ذلك حياتي فصممت على أن اْقتله نعم كنت أريد أن أقتل والدك وحتى أستطيع أن أنفذ ذلك طلبت المساعدة من صديقي فوافق ولكنه كان انتهازياّ وقبل تنفيذ المهمة بيومان ذهب إلى والدك وأْخبره بكل شيء وقد قام والدك بضربي ضرباّ مبرحاّ ونفاني إلى خارج البلاد وها أنا الآن عدت من جديد كي اْكسر قيود الظلم ولا شيء يغنيني عن قتلك حتى لو وهبتني كل ممتلكاتك فصرخت سلمى قائلة :
لا00لا تقتل والدي أرجوك إن شئت فاقتلني أنا بدلاّ منه فأجابها ماجد بكل سخرية :
ولما أقتل الفريسة ما دام الذئب أمامي, فوضع سلاحه برأس سالم وقتله أمام عيني ابنته وقد نظر على سلمى وهي تبكي وقال:
وأما أنت فلا بد من الاستفادة منك فهيا أرجعوها إلى المكان الذي كانت بداخله ولكن لا تحزني فعما قريب ستكونين بجانبه فالتزمت بالصمت قليلا ّثم قالت :
افعل ما تشاء ولكن غضب الله عليك سوف يسحقك ,فغضب ماجد وأمر رجاله بأن يلقوا بجثة سالم بعيداّ
فقالت سلمى :
أؤكد لك أيها القاتل لن يطول غدرك وستنفذ قوتك 0
وقد كان أمير في ذلك الحين ينتظر إياب والده ,وفي صباح اليوم التالي عُثر عليه عند مكب النفايات فلم يصدق أمير ما حصل ولكن الواقع كان ظاهرا أمامه , والذي جعله يخرج من تلك الصدمة علمه بأن شقيقته ما زالت حية فأخذ الورقة التي كان قد كتب والده العنوان فيها وذهب متوجهآ بها إلى الشرطة فقاموا بالتبدد إلى المكان المحدد ولكن ومن دون جدوى فقد غير ذلك الرجل مكانه فشعر أمير بخيبة الأمل وذلك لأنه لم يستطع تحقيق أمنية والده الأخيرة وقد أنزل إعلان في الصحيفة فمن يجدها سوف يأخذ مقدار كبير من النقود ولكنه لم يعلم أي خبر عنها وفي ذات يوم ذهب الحارس لإعطاء سلمى الطعام وخرج دون إغلاق الباب بالقفل حينها أتيحت الفرصة لها بالفرار فخرجت من ذلك المكان خفية وبأقصى سرعة ودون أن يراها أحد ما فصارت تمشي أمام السراب ولا تعلم إن كانت بمدينة أو قرية مجاورة لمدينتها ولا حتى إن كانت تستطيع العودة فجلست بجانب شجرة الزيتون وهي تبكي فرآها عجوز يعمل في الحقل فتوجه إليها قائلاّ:
ما بك أيتها الفتاة لما تبكين, فقالت:
أتوسل إليك يا عم أن ترجعني إلى عائلتي, فقال لها:
إذن هذا يعني أنك مفقودة, فقالت:
نعم أنا كذلك فسألها عن مكان إقامتها, فأجابته:
أنا من رام الله ,ولكن أستأخذني إلى مدينتي فأنا اشتقت لعائلتي كثيراّ فلقد مضى شهرين وأنا مبعدة عنهم فقال المزارع :
لا أعلم ما الذي سأقوله لك ولكنني أعتذر منك يا ابنتي فأنا لا أستطيع أن أعيدك وذلك لأنني لا أملك النقود فأنا لست إلا مزارعآ بسيطا لا أملك سوى قوت يومي ,فصمتت سلمى دون أن تتكلم فقال المزارع : أنا أدعى أبو سامر وأنت ما اسمك ,فلم تجبه بحرف واحد , فقال أبو سامر :
اصغي إليٍ جيدا في الوقت الحالي لن أتمكن من إعادتك إلى المدينة ولكنني سآخذك إلى منزلي حتى أتمكن من العثور على عائلتك ,فذهبت سلمى إلى منزله وكان لديه ابنتان تقضي معهما أغلب وقتها ومضت الأيام دون أن تعلم شيئا عن عائلتها .
وفي المساء ذهب أبو سامر إلى المقهى كي يرفه عن نفسه قليلا وإذا برجلٍ يقول:
يا ليت لي أن أجد هذه الفتاة المفقودة فهي فرصة لا نظير لها حتى أصبح رجلآ ثرياّ, فسمع أبو سامر الحديث الذي دار بين ذلك الرجل وصديقه فظن أن الفتاة التي تبحث عنها عائلتها هي سلمى فذهب ليرى الصورة التي وضعت في الصحيفة فتبين له أنها سلمى فقال أبو سامر للرجل:
أنت حقآ تريد هذه النقود فقال :
ولكن ما هذا السؤال السخيف بالطبع أنا أريدها وكم أرجوا الله أن أعثر عليها فقال أبو سالم:
وما رأيك بأن هذه الفتاة موجودة الآن في منزلي وإذا أردت الفوز بالنقود فعليك أن تعيدها بنفسك فقال الرجل: ولكنني أتساءل عن السبب الذي يجعلك أن تترك كل هذه الأموال لي فقال:
أنا رجل كبير في السن ومن الممكن أن يكون قد اقترب أجلي فما حاجتي بالنقود فذهب الرجل مع أبو سامر إلى المنزل وعندما وصلا قال أبو سامر للرجل:
انتظرني هنا إلى أن أعود, فذهب متوجهاّ إلى غرفة سلمى وخاطبها قائلاّ:
ألم أعدك يا ابنتي أنني سأعيد الابتسامة على وجهك وذلك بأن أرجعك إلى عائلتك فقالت:
بلا ولكن ,فقال لا تنطقي بهذه الكلمة فلا قيمة لها منذ الآن فإنك ستعودين إلى حياتك المعتادة ,فقالت : أهذا يعني أنني سأعود إلى مدينتي ,فقال: نعم ستعودين الآن فهيا لنخرج وعندما خرجا من الباب قال أبو سامر للرجل : إني أستودعك سلمى آملاّ أن توصلها إلى منزلها فقال الرجل : كن مطمئناّ وشكرت سلمى أبو سامر فهي ممتنة له لما قام به من أجلها وعندما وصلت المنزل كاد قلبها أن يطير من السعادة فدخلت المنزل وإذا بأمها منهمرة في البكاء فصرخت بأعلى صوتها "أمي"فتوقفت عن البكاء وشكرت الله على عودة ابنتها سالمة وبعد ذلك جلست الأم مع أبنائها وقالت :
إن موت والدكم سالم كان مفاجئاّ وقد أصابنا باليأس والحزن الشديد فهو كان عماد البيت وقد ملأ حياتنا بالسعادة ولكن من أجل والدكم يجب علينا أن نعمل على بناء أنفسنا مرة ثانية لأن سالم لن يعود إلينا وبعد مرور أسبوع اعتقلت الشرطة ماجد وحكم عليه بالسجن لمدة خمس سنوات وعادت العائلة كما كانت تعمل بجد واجتهاد لإصلاح ما سبق.