المرحاض أعزكم الله
أبو محمد خليل
كان الزوجان يعيشان حياة هنيئة مريئة، رغم شظف العيش. لكن سوءَ تفاهمٍ عكر صفوهما. فانقلبت حياتهما رأسا على عقب لأيام معدودة.
حدث هذا في إحدى الواحات المترامية الأطراف في ربوع الوطن العربي. تتكون من قصور عدة، لكنها ليست كقصور الأمراء، و الملوك و من والاهم، بل هي قصور متواضعة، بسيطة في بنائها. شيدت بمواد محلية، وسقوفها جذوع النخيل أو أغصان المشمش أو الصفصاف، و أعواد شجيرات الدفلة أو القصب.
في هذا المكان المخضر وسط الصحراء، عاش الزوجان السعيدان حياة بسيطة و هنيئة. تجمعهما المحبة والوئام و الإخلاص و الوفاء، إلى أن وقع ما لم يكن في الحسبان.
ذات صبيحة فَقَدَ الزوج جادة صوابه، حين هَمَّ بالإفصاح عن عشقه الجارف وهيامه الزائد، بطريقته الخاصة قائلا لزوجته:
صباح الورد و الود. صباح الأنوار و الأزهار و الأطيار، يا أحلى زوجة في كل الأقطار.
تهللت أسارير الزوجة و ابتهجت، و هي تسمع زخرف الكلام في الحب و العشق، فردت عليه قائلة:
شكرا لك حبيبي، وجازاك الله خيرا زوجي العزيز. أي إطراء و مدح شنفت به أذني وإطلالة ضياء النهار وسراج الشمس؟ لقد أسمعتني كلمات ليست كالكلمات. حفظك الله ورعاك، و أبقاك الله لنا ذخرا و ملاذا.
في خضم هذا الإطراء المتبادل بين الزوجين، همس الزوج قائلا:
أتدرين يا حبيبتي و يا مهجة قلبي و يا نور عيني، كم أحبك و كم أعشقك؟ لن تتصوري ولن تتوقعي ذلك. الله وحده يعلم السرائر، و لن أكذب عليك إن قلت لك أعشقك عشقي "للمرحاض".
و ما أن سمعت كلمة "مرحاض"، أعزكم الله، حتى ذهلت و حارت في الوقت نفسه. فعبست و قطبت تقاسيم وجهها، ثم زأرت كلبؤة أحست بخطر يحدق حول صغارها..
لم تصدق و لم تستوعب ما سمعت. كادت تفقد وعيها و أعصابها. ماذا دهى الرجل؟ أجن؟ ماذا أصابه لإيراد مثل هذا التشبيه ؟ انهالت عليها أسئلة كثيرة.
حاولت أن تجد لها مبررات و مسوغات، تحفظ ماء وجه زوجها.
ماذا جرى لينقلب المدح إلى ذم؟ و ممن من زوجها. لقد كال لها من المتناقضات ما جعلها تستغرب تصرفاته.
صرخت و صاحت في وجهه، فأفحمته بكلام لا قبل له به. أوشكت أن تفقد أدبها لو أنها أطاعت غضبها.
و الحق، فالرجل هو الأخر ذهل مم حدث. لم يكن يدري أن هذه اللفظة ستجر عليه الويلات. طأطأ رأسه للعاصفة على أمل أن تهدأ.
ألَمْ يجد الزوج غير هذه الكلمة ليمدحها بها؟ بئس التشبيه و لا حبذا هذه الكلمة. إنها كلمة تتحَرَّجُ النفوس منها و تتفادى ذكرها. فهي تلفظ بمسميات كثيرة، فهي عند البعض بيت الراحة، و عند الآخرين بيت الوضوء و هلم جرا ....
نسيت الزوجة انتساب زوجها إلى "قصر" يعرف بسذاجة ساكنته. فهم معروفون بالمستملحات، إلى درجة تنسب إليهم نكت البلد كلها. واعتقدت أن زوجها أصيب ببعض من عدواها، الشيء الذي جعله يتجاهل التشبيهات الأصيلة: البدر و البحر و النهر و الأزهار... أليست هذه تشبيهات الشعراء، و العشاق و المحبين؟
انفصلت أواصر الصلة بين الزوجين منذ أن خرجت هذه الرصاصة، و عششت في مخيلة الزوجة. لا عطور بلاد الجن و الملائكة، و لا الهدايا و باقة الأزهار، و لا توسلات الزوج، استطاعت إذابة هذا الجليد الجاثم على صدرها.
و توالت الأيام العصيبة على الزوجين، ساد بينهما الجفاء و العداء الخفي. و لأن لكل فرس كبوة، جاء الفرج، يوم وجدت الزوجة نفسها في حاجة ماسة إلى ولوج "المرحاض". لكن تشاء الأقدار أن يكون ساعتئذ مشغولا من قبل زوجها. ما العمل ؟ انتظرت قليلا لعل الزوج يخرج و يفسح لها المكان. لكن مع مرور الوقت، أحست الزوجة بأحشائها تتمزق، و ازداد ضغط بالوعتها التي لم تعد تحتمل الانتظار أكثر. كبرياؤها منعها التوسل إلى الزوج الاستعجال في الخروج. أدرك الزوج حالة اللطف التي تعيشها زوجته، فاستبطأ في الخروج، ليزيدها محنة و عذابا و ألما و مغصا.
أصيبت المرأة بإجهاد كبير. و بدأ العرق يتصبب من مسامها، إلى درجة تبللت كل ملابسها. اجتاحتها حالة من الرعب و الذعر و الخوف مخافة، لا قدر الله، و من يدري أن تضع...
تمر الدقائق كالساعات. ترى هل أدركت قيمة هذا المكان، الذي تستحيي الملائكة من الدخول إليه احتراما و تقديرا لبني آدم؟ ما عسى أن تفعله؟ آه لو كانت حفاظات الأبناء في مقاسها. تذكرت يوم حكى لها زوجها عن بعض علية القوم، الذين كانوا يلتجئون إلى استعمال الحفاظات، في العديد من المناسبات الوطنية. لم تصدق ذلك واعتبرته من الإشاعات و الخزعبلات. فأدركت الآن صحة كلامه.
لم تعي إلا وهي تصرخ وبصوت مسموع و عال: وا مرحاضاه.
لم يبق لها إلا أن تصالح زوجها و تعتذر له، و تقر بعبقريته في صدق وصفه و تشبيهه. فتوسلت إليه و رَجَتْهُ، باسم الحب الذي يربط بينهما، أن يفسح لها المكان الذي لا بديل عنه، و لا الاستغناء عنه، مهما نعته البعض بأقبح النعوت.
أخيرا خرج الزوج، و هو متيقن بأنه سيزداد مكانة و سموا و رفعة عند الزوجة. و قال لها، و هي تهم إلى الدخول للتخلص من آلامها و أوجاعها: أليس المرحاض بيت راحة ؟ اعلمي أن راحتي أجدها:
- في بيوت الله عز و جل.
- معك، حيث ما كنت.
- و في هذا المكان، الذي كان سببا في استبعاد ملف دولة عربية من منافسات تنظيم إحدى الملتقيات الرياضية الأكثر شعبية في العالم. إذ، كما قيل، نقل أحد أعضاء المنظمة على وجه السرعة إلى الفندق ليفرغ بالوعته، في غياب "مرحاض" في عين المكان.
آنذاك عرفت الزوجة قدرها و مكانتها عند زوجها، و آلت على نفسها خدمته. و أيقنت أنه كان يرمي من تشبيهه الرفع من شأنها و من مكانتها، و ليس الحط من قيمتها كما اعتقدت.
و أخيرا عاد الدفء و الوئام إلى بيت الزوجية. و ازدادت المحبة بينهما، بعدما كاد الشيطان أن يزيغ بينهما.