القناع
القناع
محمد الخليلي
لم يبدُ من وجهه إلا عيناه الزائغتان بينما أكل جلَّ وجهه نقابٌ وطاقية عريضة تتدلى على جانبي وجهه لتغطي كلتي أذنيه فيبدو وكأنه جدي أسمر ، ولا يكاد يبين هذا الشكل المريب عمره أو لونه .
الشمس المحرقة لاتسمح بأن يغطي رجل رأسه ووجهه بهذه الطريقة المضنية إلا أن يكون في صحراء مغبرة تجنباً لنقعها أو أن يكون في يوم حصاد ، وفعلاً هذا وقت الحصاد ، فنحن في نهايات شهر أيار ، ولكن أين الحصيد ونحن في شارع مزدحم تسير السيارات وئيدةً تقف مصطفةً حبلاً طويلاً على إشارات المرور التي تظهر وكأن شخصاً حاقداً صبغها باللون الأحمر لأنها لاتسمح إلا بمرور بضعة سيارات ثم يستمر الحبل بالتمدد . هو ذا الأمر الذي جعلني أتمعن في هذا الشاب ، نعم تأكدت أنه شاب لسرعة حركته بين السيارات فمو كالنحلة دؤوب الحركة علَّه يبيع لراكبيها صندوق محارم . وعند عمود الإشارة يخزن هذا الشاب النشيط تلالاً من صناديق المحارم ، وكلما استُنفد الكيس الذي الذي بيديه طار إلى العمود واستلَّ آخر بسرعة البرق متنقلاً بين الإشارات الأربع لمفرق الجامعة الذي يغصّ بالسيارات والناس في ساعة الذروة الصباحية .
حاك في نفسي ماحاك هل آخذ منه حاجتي ، ولكنني تذكرت أنني استبضعت الغداة تموين شهر . ولكن ماذا لو أخذت منه لقابل شهري ؟ كيس أو كيسان لايساوي عشر ما معه من مخزون . إذاً سيقبع تحت الشمس المحرقة ساعات طويلة وسيحتمل لهيب الشمس وثقل الأقنعة التي تحجب عنه هواء الجو الخارجي .
لعل أفضل حل بأن أطلب منه كل ماعنده ، بالفعل لم أتردد لحظة واحدة بأن أشتري كل صناديق المحارم التي بحوزته .
خلال ثوان معدودات أحضر مخزونه فلم يكن لحظتها يمشي بل يطير فوق الأرض من شدة الفرح . كان هو يضحك من شدة فرحه وأنا أبكي فرحا أيضا لما أدخلت عليه من سرور ، بيد أني تجملت وحبست دمعتي حتى لايراها .
رجع أليَّ الشاب قبيل أن تفتح إشارة المرور الحمراء وقد أسفر عن وجهه الأسمر الفتيِّ فسألته ببراءة متناهية : مايحملك على تغطية رأسك ووجهك أيها الشاب الدؤوب ؟
فأجابني والدمعة على وجنتيه : أنا طالب في الجامعة الإسلامية وسأتخرج خلال أسابيع ، أقف هنا بعيد الفجر أبيع المحارم كي أحصل مصروفي الجامعي فأبي مريض ولايقوى على العمل ووو ، فقاطعته قائلا : أنا لم أسألك لماذا تعمل ؛ لأنني أعرف أن كل الذين يمتهنون عملك محتاجون ، وهم بلا ريب أفضل ممن يمدون أيديهم بالسؤال ، وإنما سألتك عن كنه تغطيتك وجهك ورأسك .
أردف الشاب الجامعي الخريج : والله ياعم أنا أسكن في مكان بعيد أصلي الفجر في البيت لا في المسجد كي أحجز لي دوراً على إشارة مرور هنا أو هناك ، فبعض الشباب غير المتعلمين الذين يبيعون على الإشارات لاأخلاق عندهم ويزاحمونني في لقمة جامعتي وأحيانا تمتد أياديهم الآثمة لي بالضرب كي يغصبون المكان الذي أعمل فيه منذ أن كنت في المرحلة الإعدادية ، وأنا لاأريد الخوض في المشاكل فأرتحل إلى مكان آخر هنا أو هناك علني أحصل ولوعلى نصف مايفرضه علي الجو الجامعي من لباس وإتيكيت . فتحت الإشارة الخضراء فكان لزاما علينا أن نرتحل إلى مابعدها ، فتوقفت بعيد الإشارة وقلت للشاب : حظك معي اليوم جيد أنني لست مستعجلاً فقل لي دون لف أو دوران ماقصة النقاب الذي تغطي به سحنتك السمراء ؟
قال الفتى : أنا لم أك أسمر يوماً ، ولكن وقوفي سنوات عديدة وأياما مديدة تحت قيظ الشمس ولفحها جعل من بشرتي الحنطية سمراء مغبرة ، وأقسم لك لو رأيت أمي وإخوتي وأخواتي لأيقنت من كلامي ؛ فأمي بيضاء ذات عيون زرقاء وإخوتي وأخواتي ُبيض يتوزعون بين الأخضر والأزرق أعيناً . لم يطفر عنهمُ إلا أخي الصغير حمودة ذو السنتين فهو داكن اللون خلقة لا من ضحى الشمس مثلي ، ولكنه بسبب صغر سنه وحلو كلامه استرق قلب أبوي فهما يحابيانه علينا جميعا ، فقط بدمعتين كاذبتين يسطيع أن يهرب من جرم فعله فتقع العقوبة على الصغرى أميرة ، ويغلظ الأيمن الكاذبة زورا وبهتانا أنه لم يسرق حصة أخواته من السكاكر التي يرى أثرها على أسنانه الدقيقة اللبنية المسوسة السوداء ، فترن ضحكات أبي في ردهات بيتنا بأثاثه الرث المتهالك فيرجع صدى ضحكاته الهستيرية لتبدأ أمي بالضحك رداً على ضحكات أبي الممجوجة وإجرامهما معاً في تفضيله علينا كلنا . أنا أحبه ولكني أشفق على الصغيرات اللواتي يُقهرن في كل جولة ، وكم تمنيت أن لو كن ربحن جولة واحدة ضد هذا العفريت الأسمر ، ولكني والله ياعم أشتري لهن سراً من بعض مصروفي الجامعي بعض السكاكر وأدخلها دون أن يراني بكيس بلاستيكي أسود متخفياً ، ولكن هذا الصغير المدلل يشم رائحتها كما لو كان ذئبا أطلس عسالا ، لذا والحال هذه يحصل بيننا مفاوضات على القسمة ، ولايرضى هذا الإبليس إلا بقسمة ضيزى .... لله دره من شقي وو
أمسكتُ بقبعة الشاب معترضا حديثه الشيق وقلت له لم يبلس علي أحد في حياتي ويدلس كما أنت ، فأنت تحدثني عن أخيك الصغير وتسرح بي يمنة وشمألاً في الوقت الذي أخصك بالسؤال عن خمارك ، والآن سأقول لك كما قال الخضر لسيدنا موسى عليهما السلام : هذا فراق بيني وبينك إن لم تجبني جوابا شافياً صريحاً لالف فيه ولا دوران .
قاطعني الشاب قائلا : وأنت ياعماه أول شخص في حياتي يلجئني للبوح بالسر الذي يلازمني من سنوات طوال ، ألا تعرف ماتضعه النساء على وجوههن من مساحيق ؟ لم أنبس ببنت شفة وأنا أحضر الجواب الذي خبأت بخلدي حتى سبقني قائلا : اليوم ياعمي الكريم ماعاد المكياج حكراً على الغادات والحسناوات ، فإن كن يضعنه نفلاً فالرجال أمثالي فرض عليهم .
أدركت كنه مايقول ، ولكني كنت أود إثارته لأبعد حد يمكِّنني في ذلك سبيلاً فقاطعته باهتاً إياه : إذاً أنت تفكر بالعمل في هوليوود لذلك تتدرب على الميك أب ... هههه ......... فاستشاط الشاب الجامعي الأسمر الدؤوب دأب ملكة النحل وغضبها حين يدخل دبور مملكتها المحروسة عزاً .... غضب سريع على غير عادته وانبرى قائلاً أو تسخر مني ياعم ؟ فقلت على رسلك يافتى إنما أنا أمزح وأسرح ، أم أن اللف والدوران والسرح حق وحجر عليك محجورا ؟
قال : إنما القناع يصونني عن أن يخوض في حقي بأن أعمل فأحصل مصروفي الجامعي عابث أو عابثة من زملائي وزميلاتي في الجامعة .
تركته وانطلقت بسرعة البرق كي لايراني وقد أجهشت بالبكاء بل وعلا عويلي فرمقني من مر من سائقات السيارت حولي قائلات عظم الله أجركم ظناً منهن أنني تلقيت نعي عزيز .