العشق الممنوع
العشق الممنوع
أيهم نور الدين
محسوبكم – يعني أنا – كما تعرفوني , وأعاهدكم إذا انتخبتموني أن لا يكون لي دخل بالسياسة ولا الرياسة .
طول عمري هيك .
وكذلك ليس لي بالفن والفلمن والهشّك بشّك .
بس الظاهر أنه كان " إلي " وأنا آخر من يعلم .
من شوي عم بحبش باليوتيوب عن شغلات انقرضت وعفا عليها الزمن فقادتني حشريتي إلى الأقسام الفنية والطربية , ليطالعني كليب عن أغنية مسلسل تركي اسمه العشق الممنوع .
لا تثير اهتمامي هذه الأوابد فأردت الانتقال , وإذا بالكبسة إجت بنص الكليب , .
ما هذا ؟!!.
عشرات , بل مئات الذكريات والأحاسيس أتتني دفعة واحدة .
تذكرت الأغنية ومطربتها التركية " آجدا بيكان " كما لو كان الموضوع بالأمس .
أبحرت بي ذكرياتي إلى ذلك اليوم الذي سدت به السبل أمامي فقررت الهروب إلى السويد بناء على اقتراح صديقي جمال .
كانت خطة جمال بسيطة : نهرب إلى السويد , وعندما نصل نمزق جوازات سفرنا ونطلب من السلطات اللجوء الإنساني .
- شو عم تحكي لك أجدب .
- والله , فيه لجوء للمكحكحين اسمه لجوء إنساني , بس لازم تمزق جواز السفر قدامهم ليعطوك هاد اللجوء .
- شو نمزق ما نمزق , والله لنهتري دواليب ونترحم ع مفيد سعيد وآصف محلا .
- لعما شو أجدب , بالسويد فيه دواليب يا كر !! .. الدولاب اختراع وطني بامتياز , وعند حدود كسب بيبطل حدا يعرف شو هوه .
الخطة بسيطة كما قلت , فيزا لتركيا من القنصلية بحلب , والباصات رايحة جاية من حلب لأنطاكية عبر باب الهوى , ومن إنطاكية إلى اسطنبول كل ربع ساعة فيه هوب هوب .
وبعد أن نصل إلى عاصمة الدولة العثمانية العلية بيحلها المولى وبتدبر لحالها .
بس كيف بدها تتدبر وايمتين ؟؟ الله أعلم .
بلا طول سيرة , بعد رحلة سندبادية عرمرمية استغرقت ما يزيد على العشرين ساعة وصلنا منطقة الطوب كابي بأسطنبول , أفهمنا معاون الباص ذو الأصول الإنطاكية أن علينا أن نقضي ليلتنا قي منطقة أق سراي أو بيازيد الملاصقة لها حيث يمكن إيجاد فنادق رخيصة على الدوام هناك .
أخذنا حقائبنا الهزيلة وانطلقنا للبيازيد حيث وجدنا فندقاً يلائم ميزانيتنا المتواضعة , فبتنا هناك ليلة هانئة شابها بعض الشي عقصات البرغش والبراغيث .
وفي اليوم التالي انطلقنا لمقهى ملاصق لسوق القبالي تشارشي الشهير , حيث يتواجد الكثير من اللصوص وبائعي الحشيشة والدولارات المزورة و .. مهربي البشر , وهذا الصنف الأخير من المجرمين كان بغيتنا .
التقينا هناك بشعبان الفلسطيني " الاسم حقيقي " .. كان شعبان رجل أعمال ومهرب ولص وتاجر ممنوعات قرر التوبة قبل وصولنا بساعة مختصراً نشاطاته بتجارة البشر .
أفهمنا أنه يستطيع شحننا إلى السويد أو أي بلد أوربي آخر خلال أقل من أسبوع , وأن هذا سيكلف كل منا مبلغ 3000 مارك ألماني بالتمام والكمال , ثم ألقى علينا محاضرة بالوطنية عن مقاطعته لقبض أتعابه بالدولار الأمريكي لأن أمريكا هي الداعم الأول لإسرائيل .
أَسَرَتْنا وطنيته وكراهيته لقاذورات وأدران الامبريالية وصنيعتها الصهيونية , وحبه العارم لمساعدة أبناء جلدته من العرب بالمارك الألماني .
توطدت علاقته بنا خلال اليومين التاليين , فبعد أن عرف مكان سكننا صار يأتينا وأصدقائه إلى الفندق ليفطروا ويتغدوا ويتعشوا على حسابنا .
مر أسبوع , ويبدو أن الزلمة أحس بأنه من الضروري أن يرد لنا العزيمة فدعانا إلى كازينو في منطقة صاري يير الواقعة عند جسر البوسفور وساوى لنا عزيمة مطنطنة .
حضر العزيمة – بالإضافة لنا – كل شلته من العواطلية باستثناء أديب .
أديب شاب غزاوي من شلة رجل الأعمال المحسن شعبان .
جسمه رياضي قوي البينه كما أنه كان مثقفاً لا مثيل له , يستعمل الكثير من المفردات الغريبة التي تدل على مقدار ثقافته بمنتهى السلاسة .
كلمات من شاكلة " ديماغوجية – شوفينية – كولونيالية – غلاسنوست " بتطلع من بقه زي العسل , ولذا كانت قعدتنا العربية في الكازينو الاسطنبولي ناقصة لغياب هذه المفردات .
عدنا إلى الفندق آخر الليل لنكتشف أن ثروتي الصغيرة البالغة 1650 دولار أمريكي والموضوعة داخل جواز سفري قد سرقت .
الجميل أن جواز السفر لم يسرق , والأجمل أن اللص الظريف قد وضع مبلغ 50 مارك كمصروف جيب مكان الدولارات التي سرقها .
الشيء نفسه حصل مع جمال أيضاً , إلا أن اللص الظريف وضع له 100 مارك " بوكيت موني " أي ضعف مبلغي مما دفعني للاحتجاج , خصوصاً وان المبلغ المسروق من جمال لم يتعد الألف وخمسمية دولار .
أنّى لنا أن نعرف أن العزيمة والتهاليل الشعبانية كانت مجرد إبعاد لنا عن الفندق كي يتسنى للمثقف الماركسي أديب تفريغ جيوبنا على بارد المستريح .
كانت ليلة ليلاء لا أتمناها لأحد , بس المثل الذي يقول : ربك ما بيقطع بحدا صحيح .
كنا نراوح الخطى بين البيازيد وأك سراي عندما التقينا بمحمود .
محمود فلسطيني كذلك , عرف بقصتنا وما فعله ابن جلدته بنا , أرغى وأزبد وشتم ثم سألنا ما الذي سنفعله , وعندما اكتشف انعدام حيلتنا عرض علينا السكن في بيته ريثما نتدبر أمورنا .
خشينا في البداية أن يكون هدفه سرقة جوازات سفرنا , ثم قلنا لأنفسنا : أكتر من القرد ما مسخه ربه , فتوكلنا على الله وركبنا الضولموش منطلقين إلى بيته الواقع في حي شيرين إيفلر على أطراف اسطنبول الغربية .
كان المنزل يقع في الطابق التاسع من بناية حديثة , البيت كبير وشرح برح فهو مكون من أربع غرف نوم وحمامين وصالون واسع جداً جداً .
يسكن في البيت ما لا يقل عن عشرة طلاب , لا أحد يدري من الذي يدفع الإيجار وكيف , ثم علمنا أن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين هي من يدفع .
كان الشباب جميعاً من الجبهة , والبيت المجاور - وهو بنفس المساحة والاكتظاظ - تابع للحبهة الشعبية , والبيت الذي في الطابق الأسفل لفتح , أما في البناء المجاور المنبوذ من الجميع فيقبع سكن يعود لتنظيم " أبو نضال " .
كانت منظمة التحرير الفلسطينية بكامل فصائلها تسكن في الشيرين ايفلر .
رئيس الطابق وشيخ المناضلين كان الكهل حسن .
حسن هو الوحيد المتفرغ للعمل السياسي الفلسطيني أما الباقون فكانوا طلاباً متحزبين , وكان بالتالي صاحب الكلمة المسموعة في أي أمر .
تداول في شأننا مع محمود ثم قام بتحقيق دقيق معنا , وبعد أن تأكد له أننا لسنا عملاء الموساد سمح لنا بالبقاء إلى أن يأذن الله أمراً كان مفعولا .
..
بقينا ستة أشهر في ضيافة الشباب كمناضلين حقيقيين حيث لم ننفق من جيبنا قرشاً واحداً .. حتى دخان الصمصون , وهو دخان تركي معادل للحمراء القصيرة كان يقدم لنا كما يقدم لباقي الرفاق .
تعلمنا من اللغة التركية خلال تلك الفترة مفردات الحياة اليومية ببراعة .
..
في تلك الفينة كانت شقراء جميلة تزور حسن من حين لآخر, قالوا لنا أنها فنانة تركية مشهورة اسمها " آجدا بيكان " .
كانت آجدا لطيفة معي , وفي يوم رأس السنة زارتنا وقالت أن لديها وصلة غنائية في التلفزيون ليلاً بمناسبة رأس السنة الجديدة , وأنها ستأتي وأخاها لتمضي السهرة معنا بعد أن تنهي وصلتها متوقعة أن تجد التبولة والكبة النية التي نبرع بها نحن اللبنانيون .
لقد قدَّمَنا حسن لها منذ المرة الأولى كلبنانيين , لم يكن الفلسطينيون من سكان الأردن والضفة والقطاع قادرين على التمييز كثيراً بين اللهجة السورية واللبنانية , فنحن جميعاً بالنسبة لهم لبنانيون , ولما كان جميع اللبنانيين طبيخة فقد توقعت آجدا - ومعها المناضلون - أشهى المقبلات الزحلاوية من تحت أيدينا .
سألني جمال إن كنت أجيد شيئاً مما طلبوه , فأجبت بالنفي ولكن علينا الاجتهاد وأن لا نخيب ظنهم بنا مقترحاً إضافة الرز بحليب على المينيو تبع الأكل .
وافقني , وبعيد العصر بدأنا بتجهيز المائدة العامرة .
بدأنا بالتبولة : باقة بقدونس وليمونة حامضة وقرص بندورة والكثير من الملح و ..... كيلو غرام من البرغل الخشن .
انتقلنا للكبة النية : اختلفنا عما إذا كان يوضع لها الفجل !! فقررنا الاكتفاء بنصف كيلو منه في الخلطة العربية .
الأجمل كان : الرز بحليب ..
تكوّن الرز بحليب تبعنا من لتر حليب غنم مع كيلو رز قصير وكيلو سكر .
لم يشأ الشباب أن يكسروا بخاطرنا , فأبدوا استحسانهم للمائدة الشهية والذوق اللبناني الرفيع بتحضير الطعام , أما أجدا التي غنت حينها للمرة الأولى أغنيتها الشهيرة " العشق الممنوع " وجاءت إلى بيتنا بعد أن تجاوزت الساعة الثانية صباحاً وهي تتضور جوعاً – وكان هذا لحسن حظي - فقد استحسنت هي كذلك طبيخ محسوبكم جعيص وشريكه .
..
بقينا في اسطنبول ستة أشهر كتنابلة السلطان .
أكل ومرعى وقلة صنعه , وكان ختامها مسك .
فقد نجح مناضلو حسن أخيراً بإلقاء القبض على شعبان وعصابته وأحضروه موجوداً مع أديب إلى الشيرين إيفلر حيث حققوا معهما بطريقة المخابرات السورية وفرع فلسطين , وأجبروهم على دفع نقودنا ع دوز بارة .
دفع شعبان وهو يحتج مطالباً بخصم المية وخمسين مارك التي تركها لنا كي لا نتمقطع ببلاد الله الواسعة .