بسبب العبرية
حماد صبح
1
رأوها تجري صارخة : قتلوا خالي ! قتلوا خالي !
وارتمت عند تينة أحاطتها الريح السافية على السنين بنطاق من الرمل اختفت معه ساقها ، وبدت أغصانا نابتة في الرمل .
والت الصبية صراخها حاثية الرمل فوق رأسها :قتل اليهود خالي ! قتلوه !
فاندفع إليها أهل القتيل ، أخوالها ، والجيران القليلون .
2
حدث ذلك بعد الاحتلال الإسرائيلي لغزة بعشرة أيام . قدمت دورية إسرائيلية إلى بيت القتيل ، الشهيد ، وأوقفت الأب وأبناءه الثلاثة تحت حراسة جندي ، وشرع بعض أفرادها يفتشون بيت الطين المؤلف من ثلاث غرف . ودخل جندي خصا ( كوخا ) من الأغصان والحطب ، وطلع رافعا كتابا صغيرا ، وكلم قائد الدورية .
سأل القائد ممسكا الكتاب : لمن هذا ؟
فأجابه أكبر الأبناء : كتابي .
فأمره بحزم : صف هنا !
وانتهى تفتيش البيت ، ومضت الدورية ومعها ممدوح صاحب الكتاب .
وبعد عشر دقائق تقريبا نعته ابنة أخته التي رأته لحظة إطلاق الرصاص عليه وراء بيارة برتقال لأسرته . لماذا قتلوه ؟! عرفت أسرته السبب سريعا حين استعادت أن الكتاب الذي سأل قائد الدورية عن صاحبه كتاب عبرية . حسبوا ممدوح عنصر استخبارات يتعلم العبرية .
3
حزنت كثيرا لقتله على بساطة علاقتي به . ما تحدثت معه سوى مرتين أهمهما الأولى . كانت في أصيل عاصف مطير . فاجأتني المطرة منهمرة بينما كنت أطالع في كتاب تاريخ الصف الأول الثانوي . انطلقت فارا من ضراوة المطر وسطوة الريح التي تمرد عصفها قبل المطر . ولم يكن على جلدي سوى قميص سمني اللون رقيق. أي تأخر في المطر والريح سيفتك بي بردا . وفي انطلاقي الذي سهله تلبد الرمل وتماسكه تحت انهمار المطر السيال ، اقتربت من خص ينفث مدخله دخانا تتلاعب به الريح الهائجة حال خروجه . وانبثق من المدخل شاب يحاول ستر وجهه من عنف المطر ، وناداني مشيرا بيمناه : تعال !
استجبت نداءه ، ولذت بخصه . وبهرتني بشاشة وجهه في ترحيبه بي . وصب لي شايا أنزل براده عن النار بعد دقائق من دخولي . وعلمت أنه في إجازة نصف السنة من الجامعة ، وأنه يدرس العربية في جامعة القاهرة ، وأن هذا عام تخرجه . ولما علم حبي الشعرَ فاجأني بهبة عظمى . ديوان " أغاني الحياة " للشابي . ورأى جلال فرحي به ، فجل سروره ، وكم كبر في نفسي لحظتها !
4
كيف لا أعزي أهله فيه ؟! أنا حزين مثلهم عليه . في ذلك الزمان ، عقب صدمة الاحتلال المروعة ، وانهمار الخوف من جنود الاحتلال ، صار الخروج من البيت والتجول مصدر موت . ويتعين ألا تغرب عليك الشمس خارج بيتك حسب منع التجول ليلا الذي فرضته قوانين الاحتلال . مشيت جانب طريق السيارات الذي يخترق القطاع من جنوبه إلى شماله ، شارع صلاح الدين وفق التسمية الحالية . وكان يومئذ من مسار واحد . وبعد مشي قليل وجدت نفسي في مواجهة جيب عسكري إسرائيلي خلفه حافلة عسكرية . أول مرة أراهم بلحمهم ، وعلى هذا القرب . هاج في نفسي خوف جسيم كددت في مغالبته وتلافي أثره ، وفكرت في أنها قد تكون آخر دقائق عمري . نظر إلي سائق الجيب باهتمام يقارب أن يكون _ وهو ما استهجنته _ فزعا . أينا أولى بالخوف من الآخر ؟! لحظة تناهت غرابة ومفارقة . في الحافلة الوافدة من الجنوب جنود ومجندات . ماس شعر أسود طويل لمجندة في أثير العصر وخرج بعضه من النافذة ، ومادت في قلبي حسرات وأوجاع . أين أنا ؟! ماذا حدث ؟! في صحو أم في كابوس ؟!
قبل عشرة أيام كنت أمشي في هذا المكان مع صديق نتحدث في الحرب وما قد يحدث فيها وبعدها . دنيا كاملة اختفت ، وانبعثت دنيا أخرى . لم يكن في البيت معزون ، وما توقعت ذلك . كل الدنيا كما بدت لي في عزاء . ما معنى عزاء جزئي ؟! وجدت أخا له فعزيته ، وأثنيت عليه ، وانصرفت .
5
بعد أربع سنين عدت في إجازة الصيف من الجامعة . ومثل كل الطلاب العائدين ، استدعاني مكتب استخبارات الاحتلال في المدينة . جلست أمام الضابط الذي شاع لدى الناس أنه عراقي .
سألني : ماذا تدرس في الجامعة يا عوني ؟
_ لغة عربية .
_ في أي جامعة ؟
_ الإسكندرية .
_ معها لغات شرقية ؟
_ معها .
_ مثل ؟
_ تركي ، فارسي ، عبري .
_ خوش .
تفاجأت من " خوش " التي تعني " حسن " بالفارسية .
سأل : ماذا درس عوني من اللغات الشرقية ؟
_ الفارسية .
_ لماذا لم تدرس العبرية ؟
سألني متظاهرا بالانشغال بتقليب ثلاث ورقات ، فأجبته كأنما من غور لا شعوري : سمعت أنكم تقتلون من يتعلم لغتكم .
فرمى الأوراق جانبا وصرخ غاضبا : ماذا تقول يا حمار؟! نقتل من يتعلم لغتنا ؟!
أنت في جامعة ؟! قم ! نجوم السماء أقرب لك من تصريح السفر بعد انتهاء إجازتك .
ودخلت مجندة مسرعة على صراخه ، وكلمها بالعبرية . كنت اقتربت من الباب ، فسمعتها وراء ظهري تقول ناعمة الصوت :إنتا واخد خمار ! روخ من هون !