السماء تمطر دماً
عامر ممدوح
" با.. بابا ، ما .. ماما "
واتسع الكون في مداه ، احتضنت العصافير خيوط الشمس راقصة ، واغتسلت الورود بزرقة السماء الصافية فرحة جذلة .
وركضت الأم بسرعة وهي تحتضن العصافير والشمس والورود والسماء ونادت زوجها ..
تعال .. لقد نطقت وردتنا .. تكلمت .. قالت ( بابا وماما ) .
وكانت لحظة كالعرس ، الثانية فيها بسنة لطولها ولذتها ، والأنغام تكسو أجواءها وترسم بهجتها .
وأينعت العصفورة كبرعم غض صغير بحجمه لكنه ملء الكون بحبه .
ولكم كانت السعادة وسلم العمر يكبر سنة بعد أخرى ، وألام ترقبه وخيالها يوصلها لأعلاه.. أن تلبس العصفورة الفستان الأبيض ، في يومها الأبيض ، حين تزف في ليلة العمر فتسري فيها قشعريرة ممزوجة بدمعة حنان فتحتضنها حد الاعتصار.
ومن قال السعادة أن تملك وتحكم وتسيطر ، أبداً !! فالسعادة حين تجلس عصفورتك في أحضانك، تُلبسها أجمل الثياب ، تشد شعرها الناعم القصير بشريط احمر كحمرة خدودها ، حينها يصغر العالم بكل محتواه لينحني ذليلاً عند جمال الطفولة وبراءتها.
ومن زعم إن أغاني العشق هي التي تنعش الروح والنفس ؟ أبداً !! فها هي ترنيمة ( دللول يالولد يبني دللول ) تجعل الروح تحلق وتحلق وتعبر الآفاق والأجواء !! .
وقفزت العصفورة أربعة درجات في السلم الطويل ، ولم تكن تعلم أن السلم هذا مداه ، وما بعده خيالات رسمتها مودة القلب والوجدان ، ولم يتصور أحد أن تلك الحصائر المتهرئة والجدران العتيقة في بيت الجحيم ستعتصر الزهرة حتى الذوبان !!
طلع الصباح ، وأشرقت الشمس لتفتح العينين البريئتين ، شدت الأشرطة الحمراء ، وطُبعت القبلات على الخد الرقيق ، وركضت راقصة في عالم مليء بالحدائق والزهور أو هكذا صور لها خيالها الغض ، وهي لا تعلم إن هناك عينين حمراويتين ترقبها ، وأنفاس كريهة تتصاعد لاهثة بمرض ، وعواء يكاد يتعالى ، وطبول تدق في طقس ذبح العصافير الجنوني !!
ركضت ، فكشر الذئب عن أنيابه ، وسال اللعاب ، وركض منادياً إياه بابتسامة ماكرة ، وهي (ليلى) التي لم تعرف أن محدثها ذئب ، دقت الطبول بعنف ، وانتزعت الأشرطة الحمراء بقسوة ، ووثقت بها الأيدي والأرجل الصغيرة حتى تقطعت وسالت دماءها .. و.. و..
.................................
.................................
با.. بابا
ما .. ماما
صراخ صراخ صراخ ... والذئب ينهش ويفترس
بكاء بكاء بكاء .. ولا من يوقف سيول الألم
ودجلة والفرات يفيض بدموع العصفورة الذبيحة ..
والذئب يجول في الغرفة العتيقة بجنون ..والسماء تمطر دماء ومياه سوداء ..
وشمس البصرة الفيحاء تختفي ، وزرقة سمائها تسود ، وسرب الحمام يهرب فزعاً ، والورود تغمض عينيها ، والأشجار تذبل كمداً ، وعش العصفورة الصغيرة يتحطم ويتمزق ، والجدران تتشقق من شدة النحيب والبكاء .. وتخبو الحياة كلها في وديان الرغبات القبيحة المريضة .
...............................
...............................
الذئب المقيد يعلي صوته بالعواء ..
والعصفورة الذبيحة تحلق بفرح في السماء
* كتبت إثر حادثة اغتصاب طفلة وقتلها بوحشية في محافظة البصرة .