جامع العلب
هناء موسى –فلسطين
مد يده إلى حاوية القمامة رغم الرائحة الكريهة التقط علبة مشروب غازي فارغة، وضعها في الكيس مع بقية العلب ، بحث قليلا رأى علبة أخرى مد ذراعه على وسعها لم يستطع الوصول اليها ..أمسك باليد الأخرى الحاوية، وحاول تسلق الريح كي يصل إليها اختل توزان الحاوية غير المتزنة وسقطت أمامه، وتدحرجت العلبة يريد أن ينحني ليلتقط العلبة ، لكن ....
لكنه لم يستطع ليس فقط لأن عمره عمر الحزن في بلادي ، ولا لأن عظامه تآكلت بفعل السنين والتهاب المفاصل الذي جعل عموده الفقري قطعة واحدة لا تنحني، ولا بفعل الهشاشة التي تكسو عضلات يديه ، وعضلات جذعه، وقدميه، وكأنه لم يخلق من طين كما خلق العالمين ،لكن خلق من ورق خريف يابس ،بل لأنه مل من الانحناء ..
تدور الريح حوله منذ سبعين عاماً تحاول بعثرته ، يغلق جلبابه البني الرث مخفياً جسده الخريفي من ريح الشتاء ، لسعة برد تتدفق عبر حذائه المثقوب لتصل إلى قلبه ، ينظر إلى حذائه ثم يشيح بنظره كأنما يستحي من فقره ...
يلتقطها أم يمضي ؟؟!! هو لا يقف عادة على عتبة الطريق يفكر في خطاه ، هو يمشي ويدع الطريق تحزر من أثره .. لماذا يفكر الآن ؟
لم يعد في العمر متسع ولا طريق بقيت ،سلك كل الطرق ، لكن خطاه دائماً كانت بلا أثر، قامر على الحياة بدمه وأعصابه وقلبه ، لم يترك مهنة إلا عمل بها لم يترك باباً رزق إلا وطرقه ، انحنى ليصلح السيارات ، انحنى ليغسل الصحون، انحنى ليزرع الحدائق ، ليجمع قمامة الأغنياء .. انحنى كثيرا وطويلا حتى لم يعرف ظهره مستويا ... حياته نفسها كانت منحنى ينتهي بالهاوية ، ورغم عبقرية الرجل وجده في كل مهنة عمل بها إلا أنه بقي طوال حياته مفلساً مديوناً كأنما هو والفقر صديقان يعز عليهما أن يفترقا ...
عاش وحيدا كنبتة في الصحراء، كلقمة أخيرة في يد فقير، أو كفرحة يتيمة لمحزون ،مجردا من الأخوة الأشقاء فأخوته الذين سرقوا إرثه، كانوا يتنعمون بسكنى القصور بينما كان هو يحاول دفع رهن بيته المسقوف بالطين . النبل أو لعله الجبن الذي يسكنه جعله يمسك حتى عن عتابهم ، كان دائما يقول: الله يرانا والله يحاسبنا، ويقابل جفاءهم بالوصل ،ـ والجحود بدعاء الهداية لهم .
كما كان زوجاً لامرأة ملت قدره فهجرته بعد عشرين عاماً من لون واحد للحياة ، الشقاء ،أما أبناؤه الثلاثة : بنت تزوجت رجلاً فقيراً كوالدها وولدين أحدهم هاجر إلى بلاد بعيدة كي يصنع قدرا يختلف عن قدر أبيه .. وأصغر أبنائه لا يمر يوم عليه دون شجار، ولا يمر عام دون جناية جديدة تضاف إلى سجله الحافل ...
تلمع العلبة تحت شعاع تسلل خلسة من بين غيوم الشتاء، تغريه كي يقامر -وهو المقامر الخاسر دائما-ويلتقطها ..رغم الألم الذي يسكن قلبه وأعصابه وعموده الفقري وخلايا رئتيه وحدقتي عينيه، يود لو ينحني مرة أخيرة... يقول لنفسه أما شبعت من الانحناء ؟! ثم تأتيه العزيمة مباغتة فينحني شبه انحناءة تطقطق عظامه اثرها صارخة مستنجدة .... أيقف أمام علبة أتهزمه علبة ؟! انها علبة وحسب سينحني ويلتقطها حتى لو تشظى ظهره وتقطعت أوتاره ... فهو لم ينهزم أمام غيبوبة السكر التي كادت تودي بحياته ،لم ينهزم أمام الرجل الذي جاء ليضرب ابنه فلم يجد الابن فشج رأس أبيه ، لم يستسلم رغم كل اخفاقاته .. كم كانت حياته قاسية وكم كان طويلا عمر خيباته .. سيأخذ العلبة ويبيع ما جمع من العلب ، ويشترى طعاما دسما ، هذه المرة سيدلل نفسه ، لن يفكر الا به ... وما أشد سعادته لو زاد معه مبلغ كي يشتري بعض السكر والشاي .... وسيعود إلى بيته يستمتع بطعامه ويعد ابريقا رائعا من ذاك الشاي الذي يحبه ثقيلا ولا يرويه غيره بعد أكلة دسمة ، سيربت على بطنه من التخمة ويحمد الله على فضله ، ويرمي نفسه على الأريكة ويرتاح باقي النهار، وسيدلك قدميه بزيت الزيتون الدافئ ....ولن يعمل بعدها سيأخذ اجازة طويلة فقد عمل طوال حياته...
حاول أن ينحني مرة ثانية إلا أن الألم كان له بالمرصاد فعدل عن جنونه ووقف أمام العلبة عملاقا منهزما.. ورغم السنين التي تخاطفته من قبل تئن عزيمته الآن ، كد كثيرا ليحمل ماء السراب إلى واد غير ذي زرع ، زرع كثيرا لكنه لم يحصد ، ترنح الرجل من حزنه وكادت تفر دمعة قهر من عينيه ..
أتبكي خطاك أم السنين ؟!! أتبني بيتا أم تعلي جدارا بينك وبين العالمين ؟!! صوفي أنت أم جبان في جبة الزاهدين ؟!! أهزمت الحياة أم هزمتك ؟!! ما بالك هرمت قبل الأوان ألا يهرم الناس في السبعين ؟! .. كان هكذا يسجع لنفسه وهو يعاتبها موهبة أخرى من مواهبه والتي أيضا لم تقنع القدر بالعدول عن رأيه ...
انحنى أخيرا الرجل الذي حارب طواحين الهواء، وانحنى وانحنى والتقط علبة السمنة الفارغة من السمن ...
حوطت الآلام كل مفصل من مفاصل عموده الفقري الملتحم ، التحام أقداره كلها في مصير واحد ونتيجة واحدة، وكأن آلامه كانت تنعى له عمرا من الخيبات وتذكره بكل خيبة وبكل ألم تألمه ازاء كل واحدة منهن .. كيف يمكن أن تكون كل تلك الهزائم من نصيب رجل واحد ؟!! فهزائمه كانت أكبر من يحتملها قلب واحد
وضع العلبة في الكيس وجر قدميه والألم .... عاد إلى بيته دون أن يبيع العلب عرج قبلها على الصيدلاني جاره ، الذي أعطاه مسكنا للألم دون أن ينطق كلمة واحدة فمنظر الشيخ المهزوم كان يكفي كي يشرح الموقف ، وأيضا دون أن يحرجه ويسأله ثمن الدواء أو أن يطالبه بسداد ديونه ....
سكاكين كانت تنهش في عضلاته ، أنياب تفترس عظامه ،مناقير تتنازع روحه ،تناول حبتي اسبرين ... ولازالت الأنياب تفترسه ... أربع ولازالت المناقير تعمل في روحه .. تناول سبع ثمان كل العلبة ونام .... رغم أنه كان يعلم أن الاسبرين لا يسكت وجع الحياة ..
صباح اليوم التالي جاء الابن الأصغر يترنح من الخمر ،هز الجسد البارد لكن الجسد لم يرد .. طلب نقودا لكن الجسد المسجى لم يعطه ، صرخ شتم ..لكن ....
لم يستوعب موت أبيه إلا بعد المساء، بعد أن أفاق من سكره ، جلس بجوار أبيه يهزه برفق وينادي عليه بحنان لم يظهره له يوماً حياً: أبي ... أبي أفق ..
دفنوا أباهم حتى دون جنازة ، النقود التي اقترضوها لم تكن كافية إلا لتهبه قبراً فقط ،بعدما دفنوا الرجل الذي اقترض حيا وميتا ثمن وجوده على هذا الكوكب ،جلسوا يبكون رجلاً كان حياً يستحق البكاء أكثر والرثاء أكثر: الأرملة وابنتها وزوجها والابن الأصغر الذي هاج وسط عاصفة من الألم أو ربما الحزن أو لعله الندم.... فقام إلى العلب التي أكلت عمر أبيه ، ضربها بالجدار ينتقم منها واحدة واحدة ..
بريق أصفر التمع رغم الضوء الشاحب الذي كان يتسلل كلص في بيت فقير لا يجد ما يسرقه لكنه اعتاد على التسلل ، أوقف الدموع في مقلهم والشهقات في أنفاسهم وربما النبض في قلوبهم .... ذهب .. ذهب صرخ زوج الابنة .. أما عقول الأخرين فلم تستوعب بعد، بالتأكيد يهذي هذا الرجل من أين لنا بالذهب ؟!! وقفوا كلهم أمام علبة السمنة الفارغة من السمن والمليئة بالذهب يحدقون فاغري الأفواه .. الابن الأصغر الذي لم يمس الخمر بعد موت أبيه ضرب رأسه في الجدار كي يتأكد من حقيقة صحوه من سكره ...
ذهب انه حقا ذهب .. لم يصدقوا أن الرجل الذي استدانوا حتى يشتروا له مترين من التراب كان يملك كل هذا الذهب ......صرخ الابن الأصغر : هل هذه نكتة سمجة ؟! فلم يكن يعرف أن الحياة تملك كل هذه الروح من الدعابة.